لا أغفر لنفسي تخاذُلي أمام تقريع من رئيس فريق مشروع بحثي شاركت لبعض الوقت في أعماله الحقلية. تغاضيتُ عن مواجهته لأن مواجهته كانت محفوفة بالخوف من انقلابه عليَّ واستغنائه عن دوري في الفريق، وخسارتي مئة جنيه شهرياً (بمقاييس الثمانينات). ومما يؤسف له أيضاً أن زوجتي، وهي باحثة في جامعة الإسكندرية، كانت تشارك – في الوقت ذاته - في مشروع بحثي، أميركي التمويل، يهتمُّ بمسح الأغطية الخضراء في منطقة الساحل الشمالي في مصر، وتسجيل توزيعات الأنواع النباتية البرية، ومراجعتها على صور جوية لهذه الأغطية، لإنتاج أطلس للتنوع الأحيائي النباتي، في تلك المنطقة التي تُعَدُّ نظاماً بيئياً متميزاً غنياً بالحياة البرية.
وقد صادف أن كان المشروعان البحثيان، اللذان كنت وزوجتي نعمل فيهما، ممولين من مصدرين أجنبيين. وكان ذلك غائباً عنا، تغطي عليه حماستنا للمشاركة في أعمال بحثية حقلية تخرج بنا من دائرة العمل المختبري الروتينية، والفرصة المتاحة للسفر إلى مواقع لم نكن لنفكر في ارتيادها وحدنا. ثم إن موضوع رسالة الماجستير، التي كانت زوجتي تعدها آنذاك، كان جزءاً من خطة العمل في "خرطنة" الغطاء النباتي في الساحل الشمالي المصري.
والحقيقة هي أن وضعينا، زوجتي وأنا، ينسحب على نوع من المشتغلين بالعلم المشاركين في المشاريع البحثية ذات التمويل الخارجي، غير المنتبهين إلى ما يمكن أن يحيط بهذه المشاريع من علامات استفهام وشكوك واتهامات. وهم في بالوقت ذاته مكبلون، لا يستطيعون فكاكاً، بانتفاعهم من مردودها المادي، على تواضعه، أو برضوخهم لمشيئة أساتذتهم الذين ربطوا مستقبلهم العلمي بالعمل في خدمة مثل هذه المشاريع، وربما من دون مقابل.
وقد قُيِّض لي أن أخرج من زمرة غير المنتبهين حين دعيت للمشاركة في جلسات تحليل البيانات الحقلية لإعداد تقرير فني يقدم إلى الجهة المانحة، وكانت شركة بترول متعددة الجنسيات عابرة للقارات. فهالني ما احتواه ذلك التقرير من معلومات تفصيلية، تتضمن وصفاً لطبيعة ومكونات بيئة ساحل البحر الأحمر. وكنا نجمع هذه البيانات الحقلية في رحلات طويلة، بعد تقسيم منطقة العمل ذات الامتدادات الشاسعة إلى "محطات"، واحدة كل خمسة كيلومترات. وكنا نأخذ من كل محطة عينات من ماء البحر، ومن رمال الشاطئ، ونرصد مكونات التنوع الأحيائي فيها، ونلتقط ما لا يقل عن عشر صور ملونة، ونصور بالفيديو أهم معالم المحطة.
وقد اشتمل التقرير على معلومات جيولوجية وكيميائية وأحيائية، مصورة ومُجَدْولة، ولا تحتاج إلى جهد إضافي كبير كي توضع في آلات معالجة المعلومات، وحدها أو مع معلومات من جهات ومشاريع أخرى، ومن أقمار تجسس اصطناعية، لترسم صورة تفصيلية تعطي لمن يمتلكها مفتاحاً ذهبياً لهذه المنطقة ذات الحساسية الخاصة. وانتابني إحساس بأنني أشارك في عمل هو من أعمال التجسس المقنن، فأعلنت احتجاجي وانسحابي.
وقد تسبب الانسحاب في خلاف كبير مع زوجتي، إذا تخليتُ عن "مصدر رزق"، وكان عليها هي أن تستمر في إمداد مشروع الساحل الشمالي بالأسماء التصنيفية للنباتات، حتى انتهت من جمع البيانات الحقلية لدراستها الخاصة.
|