خلال السنين الخمسين المنصرمة، انهمكت حكومات البلدان الفقيرة في محاولة تحقيق أحلامها الخيالية بجلب التنمية إلى شعوبها. وتسلحت بترسانة من الأسلحة الاقتصادية التي استعارتها من أصدقائها في الشمال، مندفعة في هذا الاتجاه أو ذاك، آملة بالقضاء على آفات الفقر المتمثلة في الجوع والجهل والموت المبكر. ولكن ما حصلت عليه بدلاً من ذلك، مع استثناءات قليلة، كان مزيداً من الفقر، ومزيداً من التلوث، ومزيداً من السكان.
لقد استعارت هذه الحكومات نماذج جاهزة، بعضها من النصف الغربي للشمال، وبعضها من النصف الشرقي. ومع الرؤية الكاملة لتجاربنا السابقة، يمكننا القول الآن إن أياً من هذه النماذج لم ينجح. كان المسار الاشتراكي البحت غير كفوء، وكانت السوق المتحررة غير حساسة وبالتالي غير عادلة. وحتى لو اعتبرنا أن الخيارات ناتجة من نية حسنة، وربما مبررة نظراً لحالة المعرفة في ذلك الوقت، فمن الطبيعي أن ننتظر تعلّم شيء من خبرات خمسين سنة. ولكن يبدو أننا لم نتعلم.
أياً كانت الاستراتيجية المختارة، فقد باتت التكنولوجيا بمثابة المدفعية الثقيلة، والمال ذخيرتها. ولا بأس في استعارتهما من الخارج بكلفة هائلة، ففي الإمكان دائماً الاعتماد على الفقراء لإنتاج المزيد بكلفة أقل. وهناك دائماً الطبيعة، التي يمكن التنقيب عن مواردها وبيعها لإيفاء الديون. كانت التنمية مرادفة لمشاريع كبرى وصناعات كبرى وألعاب للأغنياء.
عندما تبين أن هذه لا تعطي النتائج المبتغاة، تحول النقاش بين خبراء التنمية الى المزايا النسبية لترويج الصادرات وإبدال الواردات، ومن ثم إلى محاسن التكيف الهيكلي والسياسات النقدية الصارمة، وفي الآونة الأخيرة إلى حوكمة أفضل وإدارة أفعل. لكن النموذج التكنواقتصادي الضمني بقي على حاله. وكذلك النتائج.
الآن وصلنا إلى التجارة العالمية بصفتها الدواء المناسب لسوء التنمية الذي يزعجنا. افتحوا الأبواب فتتدفق التكنولوجيا والأموال. ازرعوا محاصيل نقدية واصنعوا سلعاً رخيصة تكسبوا مزيداً من النقد الأجنبي.
السؤال الرئيسي هو: لمن؟ وعلى حساب من؟ وهل تنامي الفقر وانتشار التلوث وارتفاع الأسعار والانفجار السكاني شروط مسبقة للحاق بركب القرن الحادي والعشرين؟ أم نعود في نهاية المطاف إلى مربع الصفر؟
كيف ستصل الأموال المكتسبة من كل هذه التجارة إلى أولئك الذين وضعت لهم استراتيجيات التنمية هذه؟ سوف تصل إليهم بالقطّارة، كما يقول أتباع الفيلسوف الاسكوتلندي آدم سميث. اجعلوا الأغنياء أغنى، وسوف يسمن الفقراء على فتات موائدهم. فمن المفترض أن يؤدي ازدياد الصناعات والصادرات والتجارة النشطة إلى حياة أفضل للجميع.
لكن هل يرفع المدّ فعلاً جميع القوارب؟ يمكنه رفع بعضها، لكن ماذا عن القوارب الكثيرة المثبتة بالقاع، أولئك الفقراء والمنبوذون والمهمشون؟ وماذا عن الذين لا يملكون أرضاً، والنساء، والأميين؟ وماذا يفعل المدّ المرتفع بالأشجار والحيوانات والأتربة والمياه التي يعتمد عليها هؤلاء؟
قد يفضل معظم الناس العيش في بلد غني وليس في بلد فقير. فالفرص المتاحة للفرد كي يخرج من الفقر هي أفضل عادة في البلدان الغنية. من جهة أخرى، الفقر ليس ببساطة مسألة أمور مطلقة. ففي المجتمع الاستهلاكي، الذي هو الهدف النهائي لجهود العولمة، الفقر هو أيضاً مسألة إدراك، وبالتالي مسألة نسبيات أيضاً.
اليد الخفية التي يفترض أن توجه السوق بلطف أصبحت قبضة محكمة مرئية جداً، متأهبة لفتح فجوة واضحة في الألفية الجديدة يعبرها من يستطيعون دفع أجرة العبور. فإذا حصل ذلك، سيبقى الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الرحلة في الخلف.
السوق هي آلية فعالة لإنتاج السلع والخدمات التي يحتاجها الناس. وبقدر ما تمكّن سياسات التحرر هذه الآليات من العمل، تكون موضع ترحيب. لكن إذا تركت هذه السياسات على سجيتها، فهي تميل إلى البحث عما يدعوه علماء الاقتصاد «حل الزاوية»، أي الحالة القصوى التي يحصل فيها البعض على كل ما يريدون بينما لا يحصل البعض الآخر على شيء. وأي سياسة لا تستطيع تقليص تأثيراتها التوزيعية أو البيئية أو الاجتماعية السلبية ستؤدي بنا إلى طريق في الاتجاه الآخر، نحو النسيان.
هذه إحدى «إخفاقات السوق» القصوى، كما يدعوها الاقتصادي البريطاني المرموق اللورد نيكولاس ستيرن، والتي نخسر بسببها مقومات حياتنا ـ مناخ مستقر، وتنوع بيولوجي يتحمل المتغيرات، ومجتمع قوي معافى.
أشوك خوسلا رئيس منظمة «بدائل التنمية» Alternatives Development في الهند. وكان رئيس الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة ورئيس نادي روما. وقد نال تقديرات عالمية، بينها جائزة ساساكاوا البيئية وجائزة زايد الدولية للبيئة. وهو يكتب سلسلة مقالات خاصة بمجلة «البيئة والتنمية».