قبل يوم واحد من اختتام قمة باريس، يبقى السؤال الرئيسي: من سيدفع فاتورة مكافحة تغير المناخ؟ وإذ يستمر المفاوضون في العمل على مسودة اتفاق لحل عدد من المسائل المتعلقة بتوزيع المسؤوليات، يغيب المشككون هذه المرة. فهناك اتفاق عالمي على أن المناخ يتغير بوتيرة تنذر بالخطر، وأنه يجب اتخاذ إجراء سريع لوقف ارتفاع درجة الحرارة من جهة، والاستعداد للتكيف مع الآثار التي لا يمكن تجنبها من جهة أخرى.
مع عودة المفاوضين إلى غرف مغلقة، أصبح من المؤكد أن المبدأ الذهبي الداعي إلى "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة"، الذي ابتُكر عندما تم التوصل إلى الاتفاق المناخي الأول قبل 23 عاماً، فقد بريقه. فذلك الاتفاق أعفى البلدان النامية، بما فيها الصين، من التقيد بتخفيضات ملزمة للانبعاثات الكربونية، إذ اعتُبرت البلدان الصناعية الغنية مسؤولة تاريخياً عن تراكم التلوث، وبالتالي عليها تحمل مسؤولية الجزء الأكبر من الإصلاح. لكن الوضع تغير تماماً عام 2015، إذ إن الصين ومجموعة من البلدان النامية تندفع الآن على مسار سريع لنمو غير مسبوق، مما يجعلها البلدان المنتجة الرئيسية لغازات الدفيئة. وهناك اتفاق عام في باريس على أن جميع البلدان يجب أن تساهم الآن في مكافحة تغير المناخ عن طريق تخفيض الانبعاثات. والمعضلة هي اتخاذ قرار بمقدار مساهمة كل بلد.
الصين والهند هما حالياً في صدارة البلدان المنتجة لغازات الدفيئة، وقد شرعتا في برامج طموحة للحد من الانبعاثات بالانتقال إلى الطاقة الأنظف. لكنهما ما زالتا تقودان مفاوضات صعبة للحصول على فترة سماح أطول، تمكنهما من المحافظة على مستويات نمو أعلى باستخدام أنواع رخيصة من الوقود الأحفوري، بما في ذلك الفحم الحجري. مثل هذه "القوى العظمى" الناشئة تختبئ وراء البلدان الفقيرة في مجموعة الـ77. لكن هذا التحالف بدأ بالتصدع، إذ إن معظم البلدان الأفريقية والبلدان الأكثر تأثراً بتغير المناخ، تحدد الآن مسارها الخاص، من خلال المطالبة بتخفيضات أسرع للانبعاثات وبمستوى أعلى من المساعدات المالية والتقنية، وذلك من خلال "صندوق المناخ الأخضر".
وتصرّ البلدان الفقيرة على ألا تلتزم بتخفيض انبعاثاتها قبل أن تسدد البلدان الغنية تعهداتها بالمساعدات الإنمائية المالية لمكافحة تغير المناخ والتكيف مع آثاره، إلى جانب توفير نقل التكنولوجيا. وموقفها هو الآتي: إذا كنتم لا تريدوننا أن نستخدم الفحم وغيره من أنواع الوقود الأحفوري، ادعمونا مالياً وتكنولوجياً لنتحول إلى الطاقة المتجددة والنظيفة. والواقع أن مناشدتها مشروعة جداً، وتعود إلى أكثر من 20 عاماً قبل أن يصبح تغير المناخ قضية. ففي العام 1970 تعهدت البلدان الغنية في الأمم المتحدة بمنح 0.4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات إنمائية للدول الفقيرة، لكن هذا التعهد لم يتحقق، إذ لم يتم تسديد أكثر من ربع الهدف. كذلك حال نسبة الـ0.7 في المئة من المساعدات الإنمائية التي حددتها لاحقاً الأهداف الإنمائية للألفية، فقد ظلت هدفاً بعيد المنال إذ لم تلتزم بها سوى ستة بلدان.
صحيح أن البلدان الغنية تتحمل مسؤولية تاريخية، ولكن ينبغي على البلدان النامية الفقيرة أيضاً أن تقوم ببعض الإصلاحات الداخلية، خصوصاً في ما يتعلق بالحوكمة الرشيدة والديموقراطية ومكافحة الفساد، قبل المطالبة بمزيد من المنح والمساعدات الإنمائية.
أين تقف البلدان العربية في اليوم الأخير للمفاوضات حول اتفاق المناخ المنتظر؟
تقود المغرب المسيرة بمجموعة من النشاطات في إطار التحضير لاستضافة مؤتمر الأطراف الثاني والعشرين (COP22) في كانون الأول (ديسمبر) 2016. ولدى المملكة المغربية قصة جيدة ترويها، إذ تحولت إلى قوة عظمى شمسية تنفذ بعض أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم، ليس فقط لتوفير الكهرباء محلياً، ولكن أيضاً للتصدير إلى البلدان المجاورة وأوروبا بحلول سنة 2022. وتحدث الرئيس المصري بالنيابة عن البلدان الأفريقية، فأيد اتفاقاً ملزماً قانونياً، مما يعكس موقفاً أفريقياً طاغياً يتناقض مع الموقف المصري السابق الذي عارض مثل هذا الاتفاق. ويتزامن ذلك مع التحول في موقف الولايات المتحدة، التي وافقت على نوع من اتفاق ملزم. وأعلنت الإمارات أنها تتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة لتلبية 24 في المئة من احتياجاتها الكهربائية خلال خمس سنوات. أما السعودية، وهي منتج رئيسي للنفط، فهي بين عدد قليل من البلدان التي لا تزال تعارض اتفاقاً ملزماً، ما اعتبره البعض تكتيكاً تفاوضياً لتحقيق اتفاق أكثر ملاءمة. وتتصدى السعودية، من خلال ترؤسها مجموعة التفاوض العربية، لمحاولة بعض الدول الصناعية التنصل من بعض التزاماتها وإلقاءها على الآخرين، بما في ذلك الدول النفطية. وكان وزير البترول السعودي علي النعيمي دعا إلى التركيز على خفض الانبعاثات وليس إلى الحد من استخدام الوقود الاحفوري. لكن معظم المشاركين شككوا في إمكان الفصل بين الاثنين.
في كلمته أمام القمة، أيد وزير البيئة السوداني الموقف الأفريقي في دعم اتفاق قوي ملزم قانونياً، لكن بحيث يقتصر على دعم مالي وتكنولوجي من البلدان الغنية، متجنباً الحديث عن التزامات البلدان النامية لخفض الانبعاثات وتعزيز الحوكمة فيها. أما وزير البيئة اللبناني فأكد في كلمته "تأييد جميع الأفكار التي قدمتها البلدان الأخرى".
وكانت مفاجأة اليومين الاخيرين الكشف عن تحالف عابر للاصطفافات التقليدية، يضم مئة دولة نامية ومتقدمة، تمتد من افريقيا والكاريبي الى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وهي اتفقت على ثمانية مبادئ تتمحور حول اتفاق قوي ملزم، يتضمن تخفيض المستوى الأعلى المسموح للانبعاثات بحيث لا يتجاوز إزدياد معدل الحرارة العالمية درجة ونصف درجة بدلاً من درجتين. ومع ان دولاً رئيسية من بينها الصين والهند بقيت خارج هذا التحالف، إلا أنه من المتوقع أن يغير مجرى المفاوضات. وتشعر الدول التي ما زالت تعارض اتفاقاً قويا ملزماً، وبينها دول عربية، انها قد تبقى وحيدة، وأن الأقوياء استخدموها ورقة في التفاوض. ويبدو ان المغرب والإمارات ومصر والأردن تحاول إقناع المجموعة العربية ان من مصلحتها دعم اتفاق قوي ملزم، يجمع خفض الانبعاثات مع الدعم المالي والتكنولوجي المطلوب لتحقيق التنمية المستدامة، بما فيها الطاقة النظيفة.
المفاوضات سائرة في اتجاه إيجابي، حيث يدرك جميع الأطراف مدى إلحاح المشكلة، لكن كل لاعب كبير يحاول الحصول على صفقة أفضل. ويبدو أن اللاعبين الكبار يصوغون اتفاقاً حقيقياً سيتم الاعلان عنه في نهاية الأسبوع، يشمل زيادة المساهمات في الصندوق الأخضر وإجراء مراجعات كل خمس سنوات. وقد أعلنت الولايات المتحدة مضاعفة مساهمتها المالية، فيما التزمت الصين بمبدأ المراجعة الدورية. لكن المفاوضات بشأن تفاصيل التنفيذ قد تستمر حتى مؤتمر الأطراف الثاني والعشرين في المغرب سنة 2016.
نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، كتب هذا الرأي من قمة المناخ في باريس.