يكاد لا يوجد أي دليل على صراعات شهدها العصر الحجري القديم. وربما مردُّ ذلك إلى عدم توفر الوقت الكافي لأن يُبرز البشر هذا الجانب العنيف الكامن فيهم، بسبب ظروف المعيشة في ذلك الزمن، التي يصفها أحد العلماء بأنها كانت "انعزالية، فقيرة، بغيضة، فظة".
غير أن غياب الأدلة ليس هو الدليل على الغياب. فالافتقار إلى علامات دالة على وجود صراع في ذلك العصر إنما يخبرنا بأن مثل هذا النشاط في ذلك الوقت لم يشتمل على تجهيزات كالأنظمة والخطوط الدفاعية، يمكن أن تخلِّف وراءها أدلة لها صفة الدوام. وتتكئ المسألة بالأساس على نماذج من رفات بشرية تظهر عليها دلائل الوفاة نتيجة لممارسة العنف، بينها أمثلة قليلة تعود للعصر الحجري القديم. يضاف إلى ذلك عدم وجود دليل مهم في رسوم الكهوف يشير إلى خبرة في الصراع. فلم تكن الكثافة السكانية المنخفضة لتولد ضغوطاً تخلق احتكاكات بين الجماعات، الأمر الذي يومئ إلى أننا لم نعرف الميل للصراع إلا عندما بدأنا نتنافس على الموارد.
ولعل أول وأشمل مثال على حوادث الموت العنيفة في السجل الأثري جاء بعد انتهاء آخر فترة عظمى جليدية، الأمر الذي يوحي بأن البشر لم يتحولوا بجهودهم إلى الصراع إلا عندما أصبح لديهم متسع من الوقت. فما إن تهيأت الحياة في صورة أكثر انصياعاً، وتزايد عدد السكان مهدرين الموارد والطاقات التي كانت مخصصة في ما سبق للحفاظ على النوع، حتى راحوا يتبادلون سلب ممتلكات بعضهم بعضاً.
وقد عُثر في مصر على مقبرة تسمى "جبل الصحابة" قرب الحدود مع السودان، كانت تستخدم في الفترة بين 14 و12 ألف سنة خلت، قدمت دليلاً واضحاً على حوادث موت عنيف، إذ لوحظ على نصف الأجسام المستخرجة من الموقع علامات عنف، مثل كسور مضغوطة في الجمجمة وفي الساعد متسقة مع تفادي ضربات. والظنُّ أن مسببات الصراع كانت الكثافة السكانية المرتفعة، ونقص الموارد، وربما الاختلافات العرقية. وأدى ذلك إلى التنافس على الأراضي والممتلكات.
ويبدو أن قضايا الصراع على الأراضي أصبحت جوهر النزاع بعد نحو عشرة آلاف سنة في شمال أوروبا إبان العصر الحجري الوسيط. ويبين لنا تحليل مدافن في منطقة سكاتهولم في جنوب السويد، يرجع تاريخها إلى نحو 7500 سنة، ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الموت العنيف. ففي هذا الموقع، ومواقع أخرى في شمال أوروبا، تظهر على أكثر من خُمس الهياكل العظمية دلائل نهاية عنيفة. وترتفع النسبة بين الرجال، وفي إصابات محددة، مثل الضرر الذي يلحق بجانب الجمجمة المناظر لليد اليسرى، والأذرع المكسورة بسبب تفادي الضربات، وفيها ما يوحي بوجود صراع.
أما عن حالة سكاتهولم، فقد كان الموقع يغصُّ بالحياة البرية قبل نحو 7000 سنة، وكان مشتىً مفضلاً. وكانت المستويات المرتفعة لسطح البحر في ذلك الوقت أغرقت ما هو معروف الآن ببحر الشمال. وربما أدى ما ترتب على ذلك من خسائر في الموارد إلى نشوب صراع داخل تجمع سكاني آخذ في التوسع، من أجل السيطرة على أفضل المواقع.
ويمكننا أن نقرأ قصة الضغط على الموارد الطبيعية أيضاً من خلال تحليل رسوم كهفية في شمال أوستراليا، تروي قصة العنف الجماعي المستمر، الذي استفحل من صراعات فردية قبل نحو 10 آلاف سنة إلى مواجهات بين المجموعات قبل نحو 6 آلاف سنة، وهو توقيت يغطي فترة أزمة بيئية نشأت عندما أغرق البحر المرتفع السهول الغنية الواقعة بين أوستراليا وغينيا الجديدة. وهنا يعود تضافر الموارد المنقوصة مع ارتفاع ممكن في أعداد السكان، ليبدو أنه العامل المساعد الابتدائي للصراع.
|