أدّت الحرب العالمية الأولى وانتشار المجاعة خلال الفترة التي عرفت باسم "سفربرلك" إلى زيادة قطع الأشجار في سورية بهدف تأمين حطب الوقود وكمصدر للرزق مع انعدام سبل المعيشة الأخرى. وأجّج هذه المشكلة غزو أسراب الجراد في ربيع 1915، وارتفاع طلب الجيش العثماني للحطب من أجل تدفئة الأعداد المتزايدة من جنوده.
بعد مرور مئة عام، اجتمعت نوائب الدهر من جديد لتعيد رسم واقع أشبه بأحوال 1915، حيث الحرب المستعرة حالياً في سورية لا توفر بشراً ولا حجراً ولا شجراً. وكأنما مقومات هذا الوطن محكومة دائماً بالأمل والانتظار: "الأمل" الذي تحدث عنه الكاتب السوري سعدالله ونوس في رسالة يوم المسرح العالمي، و"الانتظار" الذي دارت حوله إحدى مسرحيات الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت.
من قال إن البشر هم فقط يهاجرون؟ الأشجار تهاجر أيضاً، ترحل جذوعها وأغصانها وتبقى جذورها مغروسة في الأرض كما يفعل البشر تماماً. تنظر في كل اتجاه، فترى بقايا شجر، فتسائل أحدهم: «يبدو أن هناك أشجاراً قد تنجو من منشار القطع؟» فيرد ممازحاً: «لن ينجو شيء! ما يقومون به يصفونه بالتفريد الذي سيعقبه الاكتساح الكامل»، و"التفريد" لمن لا يعرف هو إقلال كثافة المزروعات باقتلاع بعضها والمباعدة بينها بهدف تحسين الإنتاجية، ولعل هذا التبرير الذي لا يصح على الأشجار المعمرة هو مواربة محزنة للحاجة وقلة الحيلة التي تدفع الكثيرين إلى قطع ما زرعوه بأيديهم.
لسنوات طويلة كان المازوت (الديزل) هو وقود التدفئة الأساسي. وفي هذه الأيام لا مازوت إلا مازوت الدولة أو مازوت "الدولة". الأول لن تحصل عليه هذه السنة، إذا كان الحظ أو غيره ساعدك في الحصول على مخصصاتك منه العام الماضي. أما الثاني فستندمعلى الساعة التي فكرت فيها بالحصول عليه. المشكلة ليست في ارتفاع سعر المازوت، الذي تضاعف ثمنه أكثر من خمس مرات في خمس سنوات، بل في ندرة توافره في البلاد. والنتيجة، إذا كنت تبحث عن الدفء لأطفالك في هذا الشتاء القارس، فليس أمامك سوى الأشجار.
«من أقدم دون ترخيص مسبق على قطع أو إتلاف أو تشويه الأشجار والشجيرات في حراج الدولة، أو الإتيان بأي عمل يؤدي الى إتلافها، عوقب بالحبس مدة شهرين عن كل شجرة أو شجيرة. وإذا وقعت هذه الأفعال في الحراج الخاصة، تخفف عقوبة الحبس الى النصف»، هذا ما ينص عليه قانون الحراج في سورية.
على أرض الواقع، لم يعد لهذا التشريع أي أثر، بعد أن كان قطع شجرة حراجية واحدة من التعقيد بحيث يتطلب موافقة وزير الزراعة بموجب كشف تقوم بها لجان خاصة في المحافظات. كان من أسوأ ما قد يحصل لك في حادث مروري أن تصطدم سيارتك بشجرة على الطريق، وعندها عليك أن تثبت أمام القضاء أنك لم تتعمد ارتكاب هذا الحادث لتلحق الضرر بتلك الشجرة! أما الآن، فقد أضحت الأشجار رهينة حاجة الناس إلى الدفء، دون خوف من رقيب أو حسيب.
|