ثمة أدلة تاريخية على أنه حيثما تضخمت التجمعات البشرية ولم يكن أمامها إلا التعويل على نظام غذائي مكون إلى حد كبير من المواد النشوية، حدث تراجع في الصحة العامة. ويصاحب هذا التضخم أيضاً خطر تفشي الأمراض المعدية نتيجة العيش في تقارب، ولتزايد اختلاط الحيوانات المستأنسة بالبشر.
وكانت عواقب هذا التدني في الصحة متعددة الوجوه. فقد قل بشكل كبير متوسط طول البالغين. وتقدم لنا دراسات في علم الأمراض القديمة أُجريت على هياكل عظمية وجدت في منطقة شرق البحر المتوسط مقياساً لهذه التغيرات، إذ اكتشفت أن متوسط طول الذكور البالغين، في أواخر العصر الحجري القديم (من 30 إلى 12 ألف سنة) في مواقع موزعة من أوكرانيا ودول البلقان إلى شمال أفريقيا، كان يقارب 177 سنتيمتراً، في حين كان متوسط طول النساء 166 سنتيمتراً. وقد انخفضت هذه الأرقام بنحو 5 سنتيمترات مع حلول العصر الحجري الوسيط مباشرة (10 آلاف سنة مضت)، واستفحل هذا الانخفاض في أواخر العصر الحجري الحديث (5 آلاف سنة مضت) ليتراوح بين 10 و15 سنتيمتراً.
وقد ظلت هذه الأرقام هي الحالة المثالية في شمال أوروبا حتى العصور الوسطى، حيث عادت القامة إلى القصر، خاصة في المناطق الحضرية، حتى أن معدلات طول الرجال البالغين في مدن أوروبا الصناعية كانت أقصر بنحو 12 إلى 15 سنتيمتراً من نظرائهم المنتمين إلى الإنسان الحديث، الذين كانوا أول من شغل القارة قبل نحو 35 ألف سنة بتقدير العلماء. وربما يردّ جانب من هذا النقص إلى حقيقة أن أناساً كثيرين لم يكونوا في أعمالهم في المدن بحاجة لأن تكون لهم البنية الجسمية ذاتها التي كانت ضرورية للصيد أو للعمل اليدوي في الحقول. فوظيفة كالكاتب أو الحائك تتطلب براعة ومهارات ذهنية وليس قامة قوية.
وقد تخفي هذه الأرقام العامة تغييراً ديموغرافياً أساسياً جاء مع الزراعة. فثمة دراسة حديثة عن الانتقال من أسلوب الحياة المعتمد على الصيد وجمع الثمار إلى الاقتصاد الزراعي في العصر الحجري الحديث، في جنوب بلاد الشام، اشتملت على فحص 217 هيكلاً عظمياً لأفراد من الصيادين وقاطفي الثمار (في الفترة بين 10500 و8300 سنة خلت)، و262 هيكلاً عظمياً لأفراد من العصر الحجري الحديث (في الفترة بين 8300 و5500 سنة خلت)، ولم تجد مؤشراً على زيادة معدل الوفيات مع ظهور الزراعة. وعلى عكس ذلك، ازداد متوسط العمر المتوقع زيادة يسيرة من زمن جامعي الثمار البرية إلى العصر الحجري الحديث. وعلى أي حال، فقد كان للتحول إلى النشاط الزراعي تأثير مختلف على كل من الذكور والإناث. فكان متوسط العمر عند الوفاة، لمن عاشوا زمن التقاط الثمار، أعلى للإناث البالغات عن الذكور البالغين. وكان العكس صحيحاً في العصر الحجري الحديث. وثمة تأويل واحد لهذا التحول، هو أنه في مقدم العصر الحجري الحديث أدت الزيادة في الولادات إلى معدل أعلى في وفيات الأمهات.
والظنُّ عموماً أنه، منذ بدأ الناس يعيشون في مستوطنات، راح منهم ضحايا للنظام الغذائي المنخفض وعدوى الأمراض أكثر من ضحايا الحروب والمجاعات. ولكن يجب تناول هذا التقدير بحذر، إذ يبدو أن الكثير من جائحات الأوبئة وقعت متزامنة مع المجاعات. وحيثما عملت المجاعة على إضعاف تجمع سكاني - عادةً نتيجة سوء أحوال الطقس - كان الأرجح أن تحمل الأمراض أبعاداً وبائية. ومن الاحتمالات الأكثر إثارة للانتباه أن الفترات التي شهدت أحوالاً جوية سيئة كانت مرتبطة بظهور أوبئة جديدة، مثل الطاعون الأسود عام 1348.
ولا يخلو التقارب الفيزيائي الوثيق بين الإنسان والحيوان من فوائد. فقد أعطى للمشتغلين بالزراعة مقاومةً عالية ضد الجراثيم المرتبطة بالحيوانات، كانت نعمة للمجتمعات الزراعية التي تعتمد على الحيوانات في معيشتها.
عن كتاب:
Climate Change in Prehistory - The End of the Reign of Chaos. By William James Burroughs. Cambridge University Press, 2008
|