قررتُ أن أنزل إلى واقع النضال البيئي! فكانت تجربتي الشخصية: زراعة بعض أنواع الزهور في أُصص. وقد شجعني على فكرة الزراعة هذه انتقالي إلى مسكني الحالي، وفيه شرفات متَّسعة. فلم أتردد، وأسرعت إلى متجر لمستلزمات الزراعة، فاشتريت عدة أصص بلاستيكية بيضاء، واخترتُ أنواعاً من بذور النباتات المزهرة، وملأتُ الأصص بتربة حصلت عليها من حديقة قريبة. ثم غرست البذور، وسقيتها، ووزَّعت الأصص في الشرفات، ورحت أتابع البذور كل يوم.
استجابت بعض البذور فنبتت. ولكن معظم النبتات لم يلبث أن توقف عن النمو، وذوى. استمر عدد قليل منها بحالة طيبة، وأعطى أوراقاً، وامتدت سيقانه إلى أعلى. وكانت فرحتي غامرة عندما ظهرت براعم بعض ما زرعته، وعندما تحولت البراعم إلى زهور ملونة جميلة.
ولكن ذلك كله انتهى فجأة. فذبلت الزهور وتساقطت، وتجعَّدت الأوراق واصفرَّت، وشحبت النباتات وتهدَّلت. تغير المنظر تماماً... لم تعد نباتاتي حية!
تلك هي التجربة. أما الاكتشاف، فهو أنني – حقيقةً - لم أكن مستعداً للزراعة!
نعم، فالزراعة ليست مجرد رغبة في أن تغرس بذرة، وتنتظر أن تنمو لتعطي نباتاً أخضر، وزهوراً ملونة، وثماراً. الزراعة معناها أنك تقيم علاقة موّدة مع كائن حي آخر، هو النبات، وتترجم هذه المودة إلى اهتمام ورعاية، فيعبر لك النبات من جانبه عن امتنانه وإحساسه بالمودة، في هيئة زهور وثمار.
لقد اكتشفت أنني ارتكبت عدة أخطاء بحق نباتاتي التي زرعتها في شرفة منزلي: أولاً، لم أعتن باختيار الأنواع المناسبة للزراعة في ذلك الوقت من السنة. ثانياً، لم أهتم بمعرفة كيفية التعامل مع البذور النابتة، والنباتات الناشئة. كل ما كنت أفعله هو أن أرشها بالماء في كل يوم. ثالثاً، لقد أهملت نباتاتي، وتركتها معرضةً لعوامل جوية غير مؤاتية. وكان بعضها من النباتات التي يصحُّ نموُّها في الظل، فتركتها معظم النهار في شمس حامية. كما فاتني أن شُرفات المنزل يتساقط عليها غبار كثيف، من حركة المرور في الشوارع المحيطة بالمنزل، وقد سدَّت جسيمات الغبار ثغور النباتات وأهلكتها.
ولكن أكبر أخطائي هو أن علاقتي بالنباتات لم تكن فيها تلك المودة التي أتحدث عنها. لقد زرعت لمجرد أنني أردت أن أتحول من "بيئي نظري" إلى "بيئي نضالي"، ففكرت أن أبدأ بزراعة نباتات تزين شرفة منزلي بزهور جميلة. لم أفكر طويلاً في الطرف الآخر، النبات. فكرت في نفسي فقط، بينما الزراعة علاقة تقوم على طرفين: الزارع والمزروع، أي الإنسان والنبات.
لعل هذه المكاشفة تجعلنا نهتم بإدراك مفهوم الزراعة قبل أن نبدأ بخوض تجربتها، وتحديد أفضل الطرق لرعاية نباتاتنا التي تقدم لنا هداياها الثمينة: ثماراً نأكلها، وهواءً نظيفاً نتنفسه، وزهوراً بديعة تضفي البهجة على الحياة، ولوناً أخضر نرجو أن تتسع رقعته لتشمل أرجاء الكون كله.
رجب سعد السيد
ragabse@yahoo.com