ينظر كثيرون إلى الشركات والمؤسسات الخاصة على أنها العدو الأول للبيئة، فهي موضع اتهام بالتفريط في استغلال الموارد الطبيعية وتلويث المحيط بهدف تحقيق أكبر قدر من الأرباح على حساب سلامة الأنواع الحية ومستقبل الأجيال القادمة. لذلك تعمل الهيئات الحكومية بشكل دائم على إقرار تشريعات للحد من هذا الاستغلال غير العقلاني للموارد ووضع الحدود والمعايير الحازمة للحفاظ على البيئة بجميع مكوناتها الحيوية والمادية.
إلا أن التجارب والممارسات على أرض الواقع تُظهر أن المؤسسات المملوكة للدولة هي التي تساهم في أحوال كثيرة بأكبر قدر من استنزاف الموارد وتراجع المؤشرات البيئية، بشكل يفوق بكثير ما تتسبب فيه الشركات والمؤسسات الخاصة. وينطبق ذلك على الدول العربية وعلى معظم الدول من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.
في الولايات المتحدة، هناك من يرى أن وكالة حماية البيئة قد تصبح في يوم من الأيام "أقوى وكالة حكومية على وجه الأرض بما تملكه من سلطات ونفوذ مؤثر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والسياسية". ولكن السلطات الواسعة التي تملكها هذه الوكالة تصبح معطلة أمام المؤسسات الحكومية التي تقوم بتلويث البيئة، إذ لا تملك الوكالة الصلاحية الدستورية لإنفاذ القوانين على هذه المؤسسات.
وكالة حماية البيئة الأميركية لا تستطيع أن تفعل شيئاً أمام وزارة الدفاع الأميركية التي تنتج أكثر من 400 ألف طن من النفايات الخطرة سنوياً ولا تتقيد في بعض الحالات بتعليمات الوكالة حول إدارة هذه النفايات. وكذلك الحال بالنسبة إلى محطات توليد الكهرباء الحكومية العاملة على الفحم، التي تطرح إلى الجو تركيزات مرتفعة من ثاني أوكسيد الكبريت والملوثات الأخرى تتجاوز المعايير المسموحة، ولا تستطيع الوكالة اتخاذ أي إجراء للحد من هذه الانبعاثات كما تفعل مع المحطات الخاصة.
من المفارقات التي نصادفها في دولنا العربية قيام السلطات البيئية مثلا بإغلاق مصنع صغير لتعليب عصير الفواكه نتيجة ارتفاع مؤشر "الطلب على الأوكسجين البيوكيميائي" BOD في منصرفاته، وفي المقابل لا تستطيع فعل شيء تجاه مصفاة نفط حكومية تطرح منصرفات ذات تركيزات مرتفعة من الملوثات الهيدروكربونية والمعادن الثقيلة والسامة. فالعمل لإيقاف مؤسسة حكومية عن الإنتاج بسبب تلويثها للبيئة سيتم التعامل معه على أنه تعطيل للمصلحة العامة وتقييد لعجلة التنمية أيا يكن الضرر الذي تتسبب به هذه المؤسسة.
باسم المصلحة العامة وتحت شعار "التنمية بأي ثمن" قامت هيئات حكومية حول العالم بارتكاب كبرى الفظاعات بحق البيئة. ولعل ما أصاب بحر آرال وبحر قزوين شاهد على حجم الاستنزاف والضرر الذي تستطيع السياسات الحكومية إلحاقه بالمصادر الطبيعية بحجة التنمية وتحقيق الرخاء الاقتصادي. لقد تم تحويل مجاري الأنهار المغذية لهذين البحرين من أجل استثمار مياهها في التوسع بزراعة القطن، وبدل أن يستقبلا المياه العذبة أصبحا مصبَّين للصرف الصحي والصناعي وفائض الصرف الزراعي الملوث بالأسمدة، وكانت النتيجة كارثية بجميع المعايير.
إن التلوث والتخريب البيئي الذي تتسبب به مؤسسة عامة واحدة تتجاهل التشريعات والممارسات البيئية السليمة يفوق عادةً ما ترتكبه عشرات بل مئات المؤسسات الخاصة الموضوعة تحت عدسة الرقابة البيئية. ولئن قال العرب قديماً: "الصيت لعنتر والفعل لشيبوب"، ففي مسألة التلوث يصبح الصيت للمؤسسات الخاصة والفعل لمؤسساتنا العامة.
|