توجهتُ إلى مقر المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد – فرع الإسكندرية فور تسريحي من الجيش، في الثاني من أيلول (سبتمبر) 1974، لأتسلم عملي كاختصاصي في البحث العلمي. ومرت 33 سنة قبل أن أغادره متقاعداً.
في ذلك اليوم الأول، قابلني مدير الفرع، وكان من أساتذتي في كلية العلوم، وقال لي إنني محظوظ لأن موقعي في المعهد سيكون في "المجموعة المرجعية". سألته: "وما صلتي أنا بذلك، لست متخصصاً بالمكتبات". ابتسم قائلاً: "أنظر، أنت نفسك لا تعرف طبيعة العمل في هذا القسم العلمي الجديد المهم. لكنك ستدرك ما المجموعة المرجعية من خلال اسمها بالإنكليزية" (Marine Biological Collection Reference Center).
انضممت إلى أسرة ذلك القسم العلمي الجديد في تاريخ المعهد، وكان الوحيد في مراكز البحوث في المنطقة العربية وربما في الشرق الأوسط آنذاك. إنه شبيه بالمعشبات في أقسام علوم النبات في كليات العلوم والزراعة، ويمكن اعتباره متحفاً علمياً ذا طابع خاص. وأساس العمل في المجموعات المرجعية هو علم تصنيف الكائنات الحية، ومن هنا تبرز أهميتها، فالتصنيف وثيق الصلة بالتنوع الأحيائي، وبالموارد الطبيعية الحية، وبظواهر مثل الغزو البيئي.
اقترح عليَّ رئيس قسم المجموعة المرجعية أن أتروَّى في اختيار التخصص الذي سأعمل به، وأن أقضي بعض الوقت في كل تخصص من التخصصات الموجودة في القسم قبل أن أحدد مساري العملي. وبالفعل، لازمتُ زملائي الأقدم مني في القسم نحو سنة، أساعدهم في أعمالهم. وكانت المجموعة المرجعية في ذلك الوقت تضم علماء من الشباب المتحمسين، اكتسبوا خبرات كبيرة في عدد من مجالات التصنيف، منها: الأسماك البحرية، الرخويات البحرية، القشريات البحرية، الغلاليات البحرية، الإسفنج، الديدان العديدة الأشواك، الجلدشوكيات، العوالق الحيوانية، العوالق النباتية، قناديل البحر، بالإضافة إلى ظاهرة بيولوجية بحرية هي الحشف (Fouling) وهي التي وقع اختياري عليها لأتخصص بها، لأهميتها الإيكولوجية والاقتصادية. فهي عبارة عن نطاق حيوي ينشأ في تتابع منظم، يبدأ بترسب البكتيريا البحرية على السطوح المغمورة في مياه يصل إليها الضوء، فتأتي فوقها العوالق النباتية، تليها العوالق الحيوانية، فالديدان العديدة الأشواك المستقرة، فالأطومات والغلاليات البحرية، فالطحالب، فيرقات الأسماك والقشريات وغيرها. إنها مستعمرة بحرية متعددة الأنواع. فإن نمت على بطون السفن بكثافة أدت إلى إبطاء سرعتها، الأمر الذي يستهلك مزيداً من الوقود، ويقلل من كفاءة السفن الحربية. كما أن التخلص من الحشف عملية ذات كلفة عالية، تشتمل على استخدام طلاءات خاصة غالية الثمن ولا تخلو من ضرر للبيئة البحرية.
بدأت التحضير لبدء برنامجي العملي لدرجة الماجستير بدراسة التتابع في الحشف، بإشراف رئيس المجموعة المرجعية الذي صادف أن كان المتخصص الوحيد في هذه الظاهرة البحرية. وبعد أكثر من سنة من الأعمال التحضيرية، اختار رئيس القسم أن يترك المعهد إلى جامعة إقليمية، رئيساً لقسم علوم البحار فيها، فدفعتُ أنا الثمن، إذ رفضت إدارة المعهد استمراره في الإشراف على برنامجي للماجستير لأنه غادرنا، وطلبت مني أن أختار برنامجاً آخر. فاخترتُ الأسماك، وكان تخصصي الدقيق هو تصنيف أسماك عائلة التونة في مياه البحر المتوسط المصرية.
وعايشتُ أنواع أسماك التونة أربع سنوات متواصلة، أجري وراءها من العريش شرقاً على طول ساحل البحر المتوسط المصري حتى السلّوم غرباً. ووجدتُ منها سبعة أنواع، منها نوع جديد كان لي حظ تسجيله لأول مرة في مياه المتوسط، إذ أن منشأه شمال غرب المحيط الهندي، وهاجر من هناك إلى البحر الأحمر، ثم تمكن من تخطي العوائق الطبيعية المتمثلة في اختلاف درجة ملوحة البحر الأحمر عن البحر المتوسط، فعبر قناة السويس، وغزا مياه المتوسط. وقد نبهتُ إلى خطورة هذه الحالة من الغزو البيولوجي الأزرق (أي البحري). فهذا النوع الذي يسمونه في الإسكندرية "دراك" واسمه العلمي Scoberomorus commerson هو من الأسماك اللاحمة، الشديدة الشره، وانتقاله إلى مياه المتوسط كفيل بأن يدمر المخزون البيولوجي لكثير من أنواع الأسماك الأخرى.
|