نظر القاضي إلى الأوراق أمامه وبدأ يتلو حيثيات الدعوى الإدارية المرفوعة من إحدى الجهات العامة لإلغاء الرخصة الممنوحة لشركة "فحمكو المحدودة المسؤولية". وقد شعر أيمن بالملل من رتابة صوت القاضي، فأخذ يسترجع المسار الطويل للدعوى، منذ طلب إليه مديره التدقيق وإجراء الكشف على معمل "فحمكو" المتخصص بمعالجة فحم الكوك البترولي وتخفيض نسبة الكبريت فيه.
تردّد أيمن في قبول المهمة التي تم تكليفه بها، خاصةً وأن المعمل يقع في منطقة نائية تبعد أكثر من 500 كيلومتر، وأن الشكوى المقدّمة بحقه تبدو في ظاهرها كَيْدية يقف خلفها صاحب المعمل المنافس. لكنه وافق مرغماً على تنفيذ المهمة تحت ضغط مديره وفضوله في استكشاف منطقة لا يعرف عنها الكثير.
انطلق أيمن برفقة عدد من زملائه في السادسة صباحاً، بعدما تم الاتفاق مع صاحب المعمل جاسر على لقائه في منتصف الطريق مصطحباً جميع الوثائق الخاصة بترخيص المعمل لمطابقتها مع الوثائق المحفوظة لدى الإدارة العامة. وبالفعل، كان جاسر في انتظارهم قرابة التاسعة صباحاً وقد بدا مرتبكاً بما يحمله، فإحدى ذراعيه كانت تجاهد للإمساك بثلاثة ملفات من القياس الكبير فيما الذراع الثانية تتشبث برزمة كبيرة من السندويتشات وعلب العصير.
حاول جاسر ثني الفريق تكراراً عن متابعة الرحلة الطويلة، تارةً باقتراح مناقشة الشكوى في مكتبه وتجنّب عناء السفر مع الاكتفاء بالوثائق الرسمية، وطوراً بالحديث عن ضيق وقته وانشغاله بقضايا أهم، مع التلميح بأنه على استعداد لأن يقدم لهم ما يسرّهم ويرضي خاطرهم. إلا أن أيمن كان واسع الحيلة، فاقترح مراجعة الوثائق في السيارة، وهذا سيوفّر وقتهم ويشغلهم طوال رحلتهم باتجاه المعمل.
أُسقط في يد جاسر، ولم يكن أمامه سوى السير في المقترح الذي عرضه أيمن لعل شيئاً يتغير خلال الرحلة. أخرج أيمن من حقيبته قائمة طويلة تحتوي على متطلبات الترخيص للصناعات الخطرة والملوِّثة للبيئة، وبدأ بالاستفسار عنها الواحدة تلو الأخرى: "هل أجريت تقييماً للأثر البيئي؟ هل حصلت على موافقة إدارة الموارد المائية؟ هل حصلت على الموافقة الحراجية؟ هل حصلت على الرخصة الإدارية؟ الرخصة الصناعية؟ الرخصة التجارية؟ هل؟ هل؟ هل؟"
أخذ جاسر يبرز وثيقة تلو أخرى وهو يقول: "هذه دراسة الأثر البيئي من أفضل الشركات الاستشارية. هذه موافقة إدارة الموارد المائية، وتلك موافقة إدارة الحراجة. هذه هي الرخص المطلوبة مصدّقة حسب الأصول. معملنا هو أحد معملين اثنين في البلاد يقومان بمعالجة فحم الكوك وإعادة بيعه بهامش ربح بسيط يكاد لا يغطّي نفقات المعالجة التي تزيد عن خمسين دولاراً لكل طن. كل ذلك مساهمة منا في حماية البيئة بعد أن قررت الحكومة حظر التعامل مع فحم الكوك البترولي من دون معالجة". وأضاف: "لقد تمّت دراسة معملنا وإنشاؤه بأدق التفاصيل وبموجب الموافقات والكشوف والاختبارات الدورية الرسمية منذ عشر سنين وحتى اليوم، وذلك ظاهر بشكل واضح وصريح على الورق".
بدأ أيمن يشعر بالحرج من صاحب المعمل. فما عرضه جعله متيقناً من عدم صحةالشكوى التي يبدو أن صاحبها كان يسعى إلى احتكار معالجة فحم الكوك في غياب أي منافس. مع ذلك، موقع المعمل كما تحدده الرخصة الإدارية أصبح قريباً، ولا تجوز العودة من دون إجراء المعاينة بعد قطع كل هذه المسافة.
توقفت السيارة أمام أرض جرداء مقفرة على مدّ النظر، وأخذ الجميع يتساءل: "هل وصلنا؟ أين المعمل؟" ثم توجهت الأنظار نحو صاحب المعمل الوهمي الذي سكت محرجاً.
"أين المعمل؟" صاح أيمن بغضب.
لم يجد جاسر من مخرج له سوى تقليب الملفات بين يديه وهو يتمتم: "المعمل همم! انظر إلى الورق، كل شيء على الورق".
فجأة، أفاق أيمن من تسلسل الأحداث على صوت القاضي وهو يعلن بنبرة حاسمة: "وبعد أن اطلعت هيئة المحكمة على الوثائق التي عرضها طرفا الدعوى، قررت بالأغلبية: ردّ الدعوى شكلاً لأن إلغاء الرخص الإدارية ليس من اختصاص المحكمة فهو لا يتم إلا بمرسوم، وردّ الدعوى مضموناً لأن المدعى عليه أثبت بموجب الأوراق التي قدّمها عدم صحة ادعاء الجهة العامة".