لا تزال أزمة النفايات في لبنان تتصاعد بعد انتهاء العقد الموقع مع الشركة المكلّفة بجمعها ومعالجتها في منطقة بيروت وجبل لبنان، من دون تكليف شركة أو شركات جديدة للقيام بهذه المهمة. وتزامن توقّف ترحيل النفايات مع إغلاق مطمر "الناعمة" من قبل أهالي المنطقة بتاريخ 17 تموز (يوليو) الماضي، علماً أن هذا التاريخ كان محدداً مسبقاً من السلطات التي لم تقم بتوفير مطمر بديل.
نتج عن هذه الأزمة تراكم النفايات في الشوارع، مع ما يتضمنه ذلك من تهديد للصحة والسلامة العامة وتشويه للمنظر الحضاري في عاصمة بلد يقوم جزء كبير من اقتصاده على السياحة. وكعادة كل الأزمات في لبنان، شهدت أزمة النفايات تجاذبات سياسية واجتماعية وتقاذفاً للمسؤوليات، من دون السير بحلول واقعية واعتماد خيارات موضوعية.
بعيداً عن هذه التجاذبات، ما يلفت النظر أن الآراء والحلول التي يتم طرحها إعلامياً تأتي من أشخاص غير مختصين في إدارة النفايات. أشخاص تمنحهم وسائل الإعلام لقب "خبير بيئي" أو "ناشط بيئي" ويتناولون الأمر من منظور "النفايات هي ذلك الكنز المهدور"، هم شركاء لرجال السياسة الذين جعلوا من الأزمة القائمة أشبه بحساء الساحرات القاتل الذي لا تُعرف مقاديره ولا مكوّناته الغريبة العجيبة.
الأكثر استفزازاً هم أولئك الذين يتحدثون في عزّ الأزمة عن فرز النفايات وتدويرها، وتسبيخ النفايات العضوية، ويعلنون رفضهم لحرق النفايات وطمرها مطالبين بتطبيق مبدأ "نفايات صفر". هؤلاء كمن يعزف الموسيقى فيما روما تحترق، من دون إطفاء النيران بدعم الجهود التي تبذلها البلديات في ترحيل النفايات خارج التجمعات السكنية والتعامل معها بما هو متاح مالياً وبيئياً وفنياً، ومن ثم لكل حادث حديث.
ما هو متاح مالياً وبيئياً وفنياً لا يعني بأي حال من الأحوال القبول بحلول قد تؤدي إلى كوارث أكبر، كالتخلص من النفايات برميها قرب سور المطار، أو دفنها في المقالع والكسّارات دون التحقق من الخصائص التقنية والجيولوجية للموقع، وبشكل خاص نفاذية التربة وتوضّع طبقاتها وعمق طبقات المياه الجوفية.
ما هو متاح مالياً وبيئياً وفنياً يعني أن الكلام الذي يتم تداوله حالياً بترحيل النفايات ومعالجتها في ألمانيا أو السويد أو تركيا هو "كلام ليس عليه جُمرك"، والغرض منه إضاعة الوقت وإلهاء الناس. إذا تجاهلنا الاعتبارات البيئية والفنية لهذا المقترح، وهي من الأهمية بحيث يتعذّر تجاهلها، وإذا افترضنا أنه سيتم تصدير عشرة آلاف طن من النفايات أسبوعياً، فإن ذلك سيكلّف خزينة الدولة على أقل تقدير مئتي مليون دولار سنوياً، بمعدل 150 دولاراً لمعالجة الطن الواحد بالحرق أو الطمر و250 دولاراً أخرى للتوضيب والنقل والترحيل.
لا أعلم مدى قدرة الحكومة اللبنانية على توفير مبلغ 200 مليون دولار سنوياً مخصصة فقط لترحيل النفايات ومعالجتها في الخارج. ولكن إذا كانت قادرة على توفير هذا المبلغ، فهي تملك خياراً أجدى بإنشاء محرقة لترميد النفايات بشكل آمن، مكونة من أربعة خطوط باستطاعة إجمالية مقدارها 1600 طن يومياً وبكلفة تأسيسية تعادل هذا المبلغ تماماً. أما التشغيل فيستلزم 65 دولاراً تقريباً لمعالجة الطن الواحد من النفايات دون استرداد كلفة التأسيس، ويشمل ذلك في ما يشمل كلف الوقود والتخلص الآمن من الرماد وفارق الأرباح الناتجة عن بيع الطاقة.
أياً تكن الحلول الموقتة التي سيتم اعتمادها، فإنه يجب العمل لإنجاز حلول طويلة الأمد من خلال وضع مخطط عام وإعداد دراسات جدوى لبدائل إدارة النفايات الصلبة، تقوم بها جهات استشارية مؤهلة. وذلك بطبيعة الحال أسلم من ترك هذه المسألة لغير المختصين كما هو حاصل حالياً.
|