يتوضع "معهد العالم العربي" إلى الشمال من جامعة بيير وماري كوري في باريس، وهو مؤسسة جرى تأسيسها في عام 1980 بهدف تعميق فهم الفرنسيين لتطور الحضارة العربية وتشجيع التبادل الثقافي والتواصل بين فرنسا والعالم العربي، لاسيما في ميادين العلم والتقنيات.
يمثّل المعهد بالنسبة لـ"بيرتران" نافذة حقيقية على الشرق الذي عرف قبل ألف عام عصراً حضارياً ذهبياً، فيما كانت أوروبا لا تزال غارقة في عصور الظلام. بيرتران شاب فرنسي في العشرينات من عمره أنهى بالكاد تخصصه الجامعي في الدراسات الشرقية، وقد تعلّم اللغة العربية خلال فترة دراسته، فأصبح يتقنها كلغته الأم ويتحدثها بطلاقة، وهو يعمل حالياً كباحث متدرب في متحف اللوفر.
بالرغم من ضغط العمل في المتحف الأشهر في العالم، يحرص بيرتران على زيارة معهد العالم العربي كل يوم جمعة عند الساعة السادسة مساء، حيث تبقى نشاطات المعهد مستمرة حتى التاسعة والنصف. من حسن حظه أنه يسكن قرب ساحة إيطاليا على بعد أقل من ثلاثة كيلومترات جنوب المعهد، ولذلك يجد متعته الحقيقية في السير تحت ظلال أشجار شارع مستشفى سانت برنارد ومن ثم بجوار الضفة الغربية لنهر السين وصولاً إلى المعهد في نحو ثلاثين دقيقة.
لقد اعتادت بلدية باريس في أشهر الصيف على تنظيف الشوارع الموازية لنهر السين بضخ الماء آليا على أطرافها، مما يساعد في التخلص من غبار عوادم السيارات وإضفاء جو من الانتعاش على المدينة التي يغزوها السياح الصينيون والعرب في مثل هذه الأوقات من السنة.
لطالما أثارت هذه المياه المتدفقة بانتظام مخيلة بيرتران فهي تذكّره بالابتكارات التي قدمها المشرق في نظم إدارة المياه والمنصرفات، فأقدم شبكات الصرف الصحي التي تم العثور عليها حتى الآن وجدت في تل "حبوبة الكبيرة" على الضفة اليمنى لنهر الفرات غرب حلب بثمانين كيلومتر، وهي تعود إلى نحو خمسة آلاف وخمسمئة عام، كما أن بلاد ما بين النهرين ابتكرت أولى القنوات الحجرية لتصريف مياه الأمطار في الألف الثالث قبل الميلاد، ولا يغيب عن ذهنه بالطبع مساهمات المصريين القدماء في مجال الري الزراعي وابتكار أساليب رفع وضخ المياه من نهر النيل.
في الأثناء، كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء في إحدى الدول العربية، وقد بدأ سعيد في تقشير أكواز الذرة تحضيراً لشيّها على الفحم وبيعها للعابرين بجوار ضفة أحد الأنهار الذي استنزفته ورشات دباغة الجلود وقضت على الحياة فيه تماماً. يدرك سعيد أنه مدين في كسب عيشه لتلك الأشجار الباسقات من الصفصاف والكينا التي لا زالت صامدة في وجه التلوث على ضفتي النهر وتشجّع الأهالي على الدوام لزيارة المكان واسترجاع الذكريات.
هنا لن تسمع من يعزف على غيتاره وينشد أغنية البيتلز Yesterday (في الأمس) كما هي الحال على ضفاف نهر السين، بل ستسمع صرير الجنادب تقاطعها الأغاني الشعبية التي تصدح من مسجل الكاسيت الذي يملكه سعيد، أغان مريعة حقاً مثل "قف وأنت تكلمني" أو "أركب الحنطور" ولكنها ما برحت تجذب الناس كما تجذب النار الفراشات.
أما سعيد نفسه فهو يصبح في عالم آخر بعد أن يضع أكواز الذرة على النار، ويستغرق في دمدمة أغنية Je Suis Malade (أنا مريضة) التي حفظ كلماتها عن ظهر قلب خلال دراسته الجامعية، ووجد لاحقاً أنها تعبر إلى حد بعيد عن أحواله السيئة وفقدانه للأمل في العثور على فرصة عمل تناسب تخصصه الأكاديمي. سعيد من الخريجين القلائل الذين يتقنون الفرنسية في حين أن معظم زملائه في دراسة الأدب الفرنسي قد تخرجوا وهم لا يتكلمون سوى اللغة العربية بطلاقة.
فوارق سابقة في التوقيت وفي أشياء أخرى
|