أستعد حالياً لترجمة كتاب يرى نفرٌ من الدارسين أنه أول كتاب يحكي قصة المطر، وأنقل لكم بعض انطباعاتي عنه بعد قراءتي الأولى له. مؤلفته هي الصحافية البيئية سينثيا بارنِت، التي يبدو أن طول معايشتها لتاريخ المطر استبدَّ بها لدرجة أنها تبدو في صورتها الشخصية المُفضَّلة لديها تبتسم لخيوط المطر المنهمرة عليها. وقد أعطت كتابها عنواناً هو: "التاريخ الطبيعي والثقافي للمطر" (Rain: A Natural and Cultural History) وفيه إحاطة بدور المطر في تحديد مسارات الحضارة البشرية التي شهدت، على امتداد آلاف السنين، تباينات هائلة في معدلات الهطول أثرت في دورات متواترة من استقرار هذه الحضارة وتدهورها، وتدارسٌ لعلاقتنا المستمرة بالأمطار كظاهرة طبيعية، وهي علاقة تتسم بالدينامية ومثيرة للجدل والنزاع في كثير من الأحيان. كما يتعرض الكتاب لمحاولات الإنسان المستمرة لتغيير وتيرة المطر، ولتسخيره، بدايةً بالتوجه بالصلاة والقرابين إلى آلهة المطر، وأيضاً بالرقصات، وحتى بما يجري حالياً من محاولات لاستخدام ما توفر لدينا من علم وتكنولوجيا للتحكم في الأمطار، جلباً أو منعاً. وقد رأينا الصين، على سبيل المثال، تُطلقُ أكثر من ألف صاروخ محمل بمواد كيميائية مبددة لتجمعات السحب فوق العاصمة بيجينغ، خشية أن تعطل الأمطار مهرجان افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية عام 2008، كما أن لدى الصين أكبر مشروع للاستمطار. وترى المؤلفة أن الأولى بنا أن نتصالح مع المناخ فتعود كل الأحوال لتوازناتها الطبيعية.
ومؤلفة الكتاب راوية من الطراز الأول، وهي تنتقي لكتابها حكايات من التاريخ تصف استجابات البشر لظاهرة المطر، منها أصل المعاطف الواقية من الأمطار التي نقلها الأوربيون عن القبائل المكسيكية في القرن السابع عشر، وكانت تصنع من إفرازات لحاء شجرة المطاط التي كان المكسيكيون يطلقون عليها الاسم الشائع الآن "الكاوتشوك"، وقد استغرق تحويلها من مادة شديدة اللزوجة، كريهة الرائحة، إلى مطاط يصلح لصنع معاطف يقبلها الناس زمناً طويلاً، وكان ذلك بمعرفة الكيميائي الاسكوتلندي تشارلس ماكينتوش.
وتدلنا المؤلفة في كتابها على أغرب نوع من العطور، له "شذى المطر"، وهي تلك الرائحة المبهجة التي تشيع في أعقاب رخات قصيرة من المطر، وبخاصة في المناطق التي لا تعرف المطر كثيراً، ومصدرها زيوت عطرية هيدروكربونية متطايرة تفرزها النباتات، وتسمى "تربينات". وكان كيميائيان أوستراليان أعلنا في ستينات القرن الماضي اكتشافهما لسر شذى المطر، والحقيقة أن المكتشف الأول له سكان قرية قديمة في شمال الهند تدعى "كانايوج"، اشتهرت بصناعة العطور، وقد اكتسبوا مهارة استخلاص شذى المطر من الأرض، عشية هبوب الرياح الموسمية، وتقطيره وتعبئته في زجاجات، وأعطوه اسم "ميتي أتَّار".
|