عرفت أوروبا في العصور الوسطى انتشار تجارة الأدوية الزائفة التي تمثّلت بالترويج لعلاجات عجائبية تشفي طيفاً واسعاً من الأمراض والعلل. ومع تطور العلوم وتنامي الاكتشافات في الفيزيولوجيا وعلوم الأمراض والكيمياء، وترسّخ قواعد البحث العلمي المنهجي، انحسر هذا "الدجل الطبي" إلا أنه لم يختف تماماً.
محمد جنكيز أوز، الطبيب الأميركي من أصل تركي المعروف إعلامياً بالدكتور أوز، يواجه تكراراً اتهامات باعتماد الدجل الطبي من خلال برامجه التلفزيونية، خصوصاً برنامجه الشهير (عرض الدكتور أوز The Dr. Oz Show) الذي يبثّ في الولايات المتحدة وبلدان أخرى بما فيها الدول العربية عبر القنوات الفضائية.
أظهرت دراسة علمية محكّمة نشرت أواخر العام الماضي في "المجلة الطبية البريطانية" أن 54 في المئة من التوصيات الصحيّة التي ظهرت في "عرض الدكتور أوز" لا سند طبّي لها. من الأشياء التي روّج لها الدكتور أوز، والتي لا تختلف كثيراً عن العلاجات العجائبية في العصور الوسطى، مركّب خسارة الوزن "السحري" المستخلص من حبوب البن الخضراء، وتبييض الأسنان بخليط الفريز (الفراولة) وبيكربونات الصوديوم، وعلاج "مذهل" لنزلات البرد الشائعة، إلى جانب ادعاءاته غير المثبتة علمياً حول مخاطر تناول الأغذية المعدّلة وراثياً.
أوز ليس شخصاً عادياً، بل هو طبيب متخصص في أمراض القلب والصدر، وأستاذ أكاديمي في جامعة كولومبيا الأميركية، وهو إلى جانب ذلك وجه إعلامي يملك شخصية كاريزمية وحضوراً طاغياً مما يجعله مصدر ثقة لمعظم مشاهديه حول العالم. وهذا ما يبرر الدعوات المتزايدة في الوسط العلمي الأميركي لسحب إجازته في أمراض القلب والصدر، وإقالته من جامعة كولومبيا بدعوى استخدامه الدجل الطبي لأغراض تجارية، وترويجه لعلاجات زائفة مثل العلاج بالطاقة "الريكي" الذي تعمل به زوجته.
لا شك في أن ما يقدمه الدكتور أوز لا يخلو من الحقائق، ولكن علينا دائماً أن نتذكر مقولة العالم الفرنسي هنري بوانكاريه: "العلم يُبنى بالحقائق مثلما يبنى المنزل بالحجارة، إلا أن مجموعة الحقائق لا تمثّل علماً بقدر ما لا تمثل كومة الحجارة منزلا".
إن نهج الدكتور أوز ينطوي على مخاطر كبيرة قد تؤدي إلى كوارث، كتلك التي تسبب بها الدكتور أندرو ويكفيلد نتيجة بحثه الذي نشره مع زملاء له عام 1998 في مجلة "لانست" الطبية العريقة، وادّعى فيه أن هناك علاقة بين اللقاح الثلاثي (الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية) ومرض التوحّد.
لقد التقطت وسائل الإعلام بحث الدكتور ويكفيلد وبدأت بتداوله وتأويله على نطاق واسع، مما تسبب في امتناع الآباء عن تطعيم أطفالهم بهذا اللقاح. وأدّى ذلك إلى ظهور الحصبة وانتشارها من جديد في المملكة المتحدة عام 2008. ولعقد من الزمن حاولت دراسات أخرى التحقق من نتائج بحث الدكتور ويكفيلد من دون جدوى، إلى أن تم التأكد من خلال تقرير استقصائي وتحقيق رسمي أن هذا البحث اشتمل على التدليس والممارسات العلمية الخاطئة. وفي العام 2010 دين ويكفيلد بالاحتيال وعدم المسؤولية، وسحبت إجازته الطبية وشُطب اسمه كطبيب.
ويكفيلد وأوز وأمثالهما يستخدمون ما تعلّموه لتدمير تخصصاتهم العلمية من الداخل، بدل المساهمة في دفعها باتجاه التقدم والتطوير. أشخاص كهؤلاء يهدمون الثقة في العلم ويعيدوننا إلى عصور "العلاجات العجائبية" بشكل أخطر بكثير مما يفعله مدّعو العلم الذين نصادفهم في حياتنا اليومية.
|