كشف مجلس محافظة البصرة النقاب مؤخراً عن وفاة 31 عاملاً من مجموع 68 عاملاً مصابين بالسرطان تعرضوا لإشعاعات اليورانيوم في مصنع الحديد والصلب. وذلك لاستخدام المصنع، كمادة أولية في صناعاته المختلفة، أكواماً كبيرة من مخلفات الحديد (السكراب) تضم آليات عسكرية ثقيلة للجيش العراقي دمرتها القوات الأميركية خلال الحرب بقذائف اليورانيوم (" شفق نيوز"، 23/2/2015). وقبل ذلك توفي عمال آخرون بالسرطان من دون الإعلان عنهم.
الحكومة العراقية، وخاصة وزارات الصناعة والمعادن والبيئة والصحة، تتحمل مسؤولية إصابة هؤلاء العمال وموتهم بالسرطان الناجم عن إشعاعات اليورانيوم. وذلك لإهمالها التحذيرات العلمية لخطورة مخلفات الحرب الملوثة بالإشعاع، واستهانتها بها، ناهيك عن درئها، فضلاً عن التستر على الأسباب الحقيقية للإصابات والوفيات السرطانية هناك.
لقد لفتنا الانتباه مراراً الى خطورة الخردة المضروبة بأسلحة اليورانيوم المستنفد، ودعونا الى رفعها فوراً وطمرها بطريقة مأمونة بعيداً عن المناطق السكنية والحقول والمزارع. وانتقدنا عدم التعامل مع هذه المشكلة الخطيرة بشكل استثنائي وجدي وفاعل. وأخذنا على قرار مجلس الوزراء عام 2006 تشكيل لجنة مركزية تقوم بتجميع الحديد السكراب ونقله الى مصنع الحديد والصلب في البصرة وشركة الصمود العامة للصناعات الفولاذية في التاجي، للاستفادة منه في إعادة التصنيع، وكان سبب انتقادنا عدم تحديد التخلص من السكراب الملوث إشعاعياً كهدف أول لعملية التجميع. وحذرنا من مغبة تجاهل التحذيرات العلمية التي تعتبره خطراً جدياً بيئياً وصحياً، حتى في حالة صهره وتحويله الى منتجات أخرى. ولذا، منعت الدول المجاورة دخول السكراب العراقي إليها. وأكد خبراء في طب المواد المشعة ما حذرنا منه، مبينين أن استخدام المعدات العسكرية المضروبة بذخائر اليورانيوم المستنفد أو الاقتراب منها يشكل تهديداً لصحة الإنسان راهناً ومستقبلاً.
وبدافع الواجب الوطني والمهني والإنساني، كررنا في وسائل الإعلام المختلفة وفي مؤتمرات وندوات علمية تحذيراتنا من خطورة تحول أنقاض الحرب المضروبة بقذائف اليورانيوم المستنفد - من مدرعات ودبابات ومركبات وآليات ومدافع وراجمات ودشم - الى حديد خردة، بسبب تلوثها إشعاعياً. وذلك استناداً الى نتائج أبحاث ودراسات ميدانية علمية أجراها في جنوب العراق علماء أجانب، في مقدمتهم الكندي هاري شرما والبريطاني كريس بسبي، والدراسة الميدانية والقياسات الإشعاعية الواسعة التي أجراها الفريق العلمي للمركز الدولي المستقل لأبحاث اليورانيوم الطبية (UMRC) والتي شملت بغداد وضواحيها ومدن وسط وجنوب العراق حتى أبي الخصيب، ووجدت أن نسب التلوث الإشعاعي تزيد من 10 آلاف ضعف إلى 30 ألف ضعف على الحدود المسموح بها دولياً. وأثبت العديد من الدراسات الميدانية وجود معدلات عالية من الإشعاع والسموم الكيميائية في ركام الحرب المنتشر في أرجاء العراق.
لم يتم في وقته رفع السكراب الملوث من المناطق السكنية والحقول، ولم يمنع الاقتراب منه، ولم يتخذ أي إجراء جدي وفاعل لدرء مخاطره. وكل ما حصل هو تجميع قسم منه في "مقابر" ليست بعيدة عن المناطق السكنية، تركت من دون حراسة ولا مراقبة، فلعب مئات الأطفال فوقه وحوله وتضرروا في ما بعد بيولوجياً. وجرت أمام الجميع عملية واسعة ومنظمة لتفكيك أجزائه ونقلها والمتاجرة بها كخردة ساهمت بنقل الإشعاعات الى المدنيين، وحتى الى خارج الحدود. وأهملت كل المطالبات بمنع استخدامه وتدويره، وضربت عرض الحائط التحذيرات العلمية من أن التلوث بإشعاع اليورانيوم المستنفد يدوم ملايين السنين، وسيبقى السكراب الملوث به يشكل خطراً بيئياً وصحياً على المجتمع عبر الأجيال.
وتجاهلت الحكومة العراقية مبادرات علمية قدمت إليها للتخلص من ركام الحرب، ومنها المشروع الخاص بطمر نفاياته المشعة الذي قدمته ورشة عمل دولية نظمتها جامعة التكنولوجيا في لوليو بالسويد. وقبل ذلك أهملت المشروع الذي تقدمت به جامعة أوهايو الأميركية للمساعدة في دراسة ومعالجة التلوث باليورانيوم المستنفد، مثلما أهملت نتائج عشرات البحوث والدراسات العلمية الأجنبية والعراقية في هذا المضمار.
الإهمال والتجاهل هما المسؤولان عن دخول الخردة الملوثة إشعاعياً في صناعات محلية عديدة، وإلى بيوت كثيرة، وما سببته من أمراض خطيرة لمن تعاملوا معها أو اقتربوا منها، سوف لن تقتصر عليهم وإنما ستنتقل الى ذريتهم.
ما حصل لعمال مصنع الحديد والصلب في البصرة كان متوقعاً، وقد حذرنا من وقوعه بوضوح حتى في مجلة وزارة البيئة العراقية. لكن الحكومة ووزارات البيئة والصحة والصناعة والمعادن تجاهلت كل التحذيرات العلمية الرصينة وفرطت بصحة المواطنين وحياتهم. ولذا فهي تتحمل كامل المسؤولية، ومن حق الضحايا وذويهم محاسبتها ومساءلتها قضائياً.
الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي عراقي مقيم في السويد
|