كان جانب من كورنيش الميناء الشرقية في الإسكندرية يقع في مساري من وإلى مقر عملي في معهد علوم البحار. وذات صباح ربيعي عام 1978، لفت نظري شاب آسيوي الملامح، يستند بدرَّاجته التي حملت كلَّ متاعه إلى سور الكورنيش الحجري العتيق. ولما حاذيته، استوقفني بأدب جمّ، ورجاني أن ألتقط له صورة، فرحَّبتُ. فراح يوجهني إلى زاوية تصوير محددة، وقال: "تأكد من فضلك أنني أظهر في مركز هذا التشكيل العبقري". وكانت يداه تشيران إلى مسطَّح الميناء الشرقية. ثم طلب أن أصوره بحيث تكون قلعة قايتباي المطلة على الميناء في خلفية الصورة.
سألتُه: "وماذا يعجبك في هذا المسطح المائي؟" قال إنه رحَّالة، يجوب العالم على دراجته، ولم ير لهذه الميناء مثيلاً في البلاد العديدة التي زارها. استوقفني ذلك بشدة، فأنا من عشاق الميناء الشرقية، وقد قضيتُ زمناً طويلاً أرصد أنواع الطيور البحرية التي تأتي إلى مياهها على مدار فصول السنة، ولا أملُّ ولا أتعب من السير على كورنيشها، الذي جاء هذا الشاب الآسيوي ليشاركني الولع به. لذلك، كان من السهل أن يمتد بيننا الحوار. وعرفت أن اسمه فيهان آراف، من مدينة مومباي الساحلية غرب الهند. وكنت أحمل كيساً مملوءاً بساندويتشات الفول والطعمية، إفطاري أنا وزملائي في المختبر. فسألته: "هل تحب الفول؟" صرخ كالمجنون: "نعم، نعم، فول ميداميز". فدعوته ليشاركني الإفطار في مقهى على الرصيف المقابل. لم يضيع دقيقةً، ووجه دراجته ليعبر معي طريق الكورنيش.
رحنا نتحدث في المقهى كصديقين قديمين. علمت منه أن جولته العالمية على دراجة هوائية هي دعوة ضد كل ما هو مفسد لبيئة البشر، ومناصرة للحيوية والتجدد، ولتفقد العالم مباشرة، وليس عبر وسائط إعلامية لا تنقل الحقيقة كاملة. قال كأنما هو يسأل: "هل هناك ما هو أصدق من عينيك وأذنيك؟" وأضاف بعذوبة ولطف: "وهل كنت أصدق كم هو لذيذ هذا الفول الميداميز (المدمس) لو لم أذقه في مصر؟"
انتهى اللقاء على أمل التواصل، وانطلق فيهان على دراجته العجيبة، وواصلت أنا طريقي إلى المعهد المجاور لقلعة قايتباي. وشغلتني أحداث الحياة الرتيبة، فكدتُ أنسى ذلك الرحالة الهندي، حتى فوجئتُ، بعد ما يقرب من سنتين، برسالة في بريدي وعلى ظهرها اسم "فيهان آراف". كانت تحتوي على خطاب بتوقيع "فيهان ميداميز". أخبرني أنه أحياناً يتخذ هذا الاسم تحيةً للقائنا السريع الوحيد، الذي اعتبرني بعده في دائرة أصدقائه. قال أيضاً إنه يتجول بدراجته في بعض دول أميركا الجنوبية. وعاش في غابات الأمازون أياماً، وأصابته حمى نتيجة لدغة ثعبان، تعافى منها بعد أيام طويلة بفضل الوصفات العلاجية المحلية. وأشار إلى متابعته لصراعات حادة بين السكان المحليين ومراكز أبحاث تدعمها شركات عملاقة، حول استخدام الموروث الشعبي والأنواع المحلية من الخضر والحبوب والفواكه، خاصةً الموز، لإنتاج أنواع بديلة معدَّلَة وراثياً، يمكن أن تقضي على الأنواع الأصلية بعد حين ليبقى الفلاحون والمزارعون معتمدين على تلك الشركات من أجل البذور والشتول ليزرعوا محاصيلهم الغذائية.
أما خطابه الأخير فقد وصلني في بداية 1992، وأخبرني فيه أنه شبه محدد الإقامة في موقع بالقرب من مدينة كيغالي، عاصمة رواندا في أفريقيا، وقد منح امرأة عجوزاً كلَّ ما لديه من نقود، إضافةً إلى ساعة يده وآلة تصويره، لترسل لي هذه الرسالة من أقرب مكتب بريد. وكتب أنه يعهد إليَّ بأهم ما لديه من أوراق تتضمن يوميات رحلاته، لأنه يثق بأنني لن أهملها، وربما يمكنني نشرها، فهو لا يأمل خيراً من هول ما يجري حوله.
لكن الرسالة، التي كانت آخر اتصال بيننا، خلت من أي أوراق مرفقة، ولم تزد عن صفحة واحدة، انتهت بتوقيع "فيهان ميداميز".
|