قبل نحو اثنتي عشرة سنة، أنجزتُ دراسة ميدانية لتطوير خطة تدوير النفايات في إحدى المناطق الريفية القريبة من مدينة بواتييه الفرنسية. وقد أضافت هذه الدراسة إلى معارفي الكثير، إذ ان معظم التدريب السابق الذي حصلت عليه والدراسات والمشاريع التي شاركت في تنفيذها تناولت أنظمة الجمع والترحيل والطمر وتقنيات الاسترجاع بالترميد أو التحويل إلى كومبوست (سماد)، دون الخوض بشكل معمّق في تدوير النفايات.
المشكلة الكبيرة التي واجهتني في إعداد الدراسة هي أن الجميع كانوا متعاونين لإنجاح إدارة النفايات الصلبة في منطقتهم: العاملون في هذا القطاع، والمؤسسات الأهلية الداعمة، وحكومة المقاطعة، وجميع الأهالي باستثناء شخص واحد تبيّن لاحقاً أنه ساكن جديد. كلٌ يقوم بدوره على أفضل وجه. وهكذا، لم تكن مهمتي هي الاستمتاع بحل المشاكل، بل الغرق في التطوير من وضع مثالي إلى وضع أكثر مثالية!
مع ذلك، كانت هناك نقاط ضعف محدودة في منظومة استرجاع المخلفات. منها على سبيل المثال طريقة التعامل مع إطارات السيارات المهترئة. فمن غير المسموح التخلص منها في مطامر النفايات كونها تشغل حيّزاً كبيراً ولا تتحلل بسهولة، ولا يمكن حرقها في مرمدات النفايات المنزلية لأن ذلك يتطلب اتخاذ ترتيبات تقنية وبيئية خاصّة لا توفرها معظم المرمدات في فرنسا. ولذلك فإن الخيارات المتاحة كانت بتخزين الإطارات المهترئة في مواقع محددة أو بترحيلها إلى شركة تصنيع الإطارات «ميشلان» لمعالجتها بكلفة باهظة.
التعامل مع إطارات السيارات المستعملة مشكلة عالمية تعاني منها جميع الدول المتقدمة في مجال إدارة النفايات الصلبة. والمفارقة أن الدول الأقل تقدماً في هذا المجال هي الأنجح في استرجاع مواد هذه الإطارات والإفادة منها!
الأمر ببساطة هو أن مواطني الدول المنخفضة الدخل يجدون في الإطارات المهترئة مادّة أولية لتصنيع السلال المطاطية الدائرية الشكل المعروفة في عدد من الدول العربية باسم "القُفف"، أو في تصنيع الجُعب التي يستخدمها عمّال البناء، كما يتمتسحيبها كشرائط تستخدم في صنع المفروشات المنزلية كالكراسي والأسرّة. وفي أسوأ الأحوال، يتم حرق الإطارات لتدفئة الأشجار المثمرة منعاً لتساقط أزهارها عند تشكّل الصقيع في ليالي الربيع الأولى، ولتذهب البيئة إلى الجحيم!
ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو تجربة عربية ناجحة في التعامل مع إطارات السيارات المهترئة قرأت عنها قبل بضعة أيام. تتمثل هذه التجربة في مصنع لإنتاج البلاط المطاطي من الإطارات التالفة في مدينة الخليل الفلسطينية، قام بإنشائه بشير الزغل وهو شاب في العشرينات من عمره، مستفيداً من تجربة مشابهة في ماليزيا. وهكذا، بدلاً من أن تكون الإطارات مشكلة لا حل لها أو ذات كلفة مرتفعة لمعالجتها، كما هي الحال في فرنسا، أصبحت هذه الإطارات في فلسطين مواد أولية لتصنيع الأرضيات المطاطية تعود بالنفع المادي على الجميع وتوفّر فرص عمل كثيرة وتحفظ البيئة من مخاطر التلوث.
الجدير ذكره أن شركة "ميشلان"، وبالتعاون مع الوكالة الفرنسية للبيئة وإدارة الطاقة، أطلقت مطلع العام الماضي مبادرة لابتكار طرق ميكانيكية وكيميائية للإفادة من مخلفات الإطارات، بميزانية 69 مليون دولار تمتد ثماني سنوات. أما المؤسسة المسؤولة عن إدارة النفايات الصلبة في المنطقة التي قمت بدراستها، فقد توقّفت عن تسلم الإطارات التالفة من المواطنين، وليفتش كل منهم عن "طريقة ما" للتخلص من إطاراته.
فيديو: تغطية وكالة "وطن" الفلسطينية لمصنع بشير الزغل
|