كان متعهد أعمال البناء والإنشاءات البريطاني جوزف أسبدين يفكر: ها نحن نعيش في بداية القرن التاسع عشر، وبوادر التقدم تظهر في كل المجالات إلا مجال البناء والتشييد. كأننا لا نزال نحيا عصر الرومان القدماء، نستخدم مثلهم إسمنتاً من مسحوق الحجر الجيري ومن غبار البراكين. إن البشر سيحتاجون إلى مبان أعلى وأضخم، وذلك لن يتحقق إلا بأساليب مستحدثة في البناء، وهذا بدوره يتطلب خرسانة أقوى مما نصنعه الآن، وحجارة بناء جديدة. فمن أين لنا بالمكونات الأساسية لهذه الأشياء؟
وكان أسبدين يخصص بعض أيام الأسبوع لتجارب يجريها في كوخ ملحق بحديقة منزله. وبعد نهار عمل شاق، كان عائداً إلى المنزل، عندما مرت به شاحنة مسرعة أثارت خلفها سحابة من التراب غطت وجه الرجل. فأخذ يصيح بالسائق غاضباً، وينفض الغبار عن رأسه ووجهه وملابسه. وظل يغمغم حتى وصل إلى البيت.
وعلى مائدة العشاء، ذكر ما تعرض له من غبار الشاحنة. فضحك أحد أبنائه مازحاً، وقال: "لم يكن الأمر يستحق كل هذا الغضب يا أبي. إنه ليس أكثر من غبار الإسمنت والرمال الذي يحتم عملك أن تظل محاطاً به طوال اليوم!
توقف أسبدين عن تناول طعامه، وأخذ ينظر في فراغ الحجرة فاغراً فمه، يدق بسبابته على جبهته وهو يتعجب من نفسه. إنها فعلاً ليست أول مرة يتعرض فيها لغبار الشاحنات، فكيف لم تخطر بباله تلك الفكرة قبل الآن؟
اضطرب الإبن وظن أنه تجاوز حدود اللياقة في حديثه إلى أبيه. وحاول أن يعتذر، لكن الأب هوَّن عليه، وترك مقعده، وتوجه إلى كوخ التجارب. التقط جاروفاً ووعاءً معدنياً، وخرج إلى النقطة ذاتها التي غطاه عندها غبار الشاحنة. أخذ يجمع التراب المتراكم بكميات كبيرة على الطريق والناتج عن احتكاك عجلات المركبات والشاحنات بالأحجار الجيرية التي كانت تستخدم في رصف الطرق. ولما امتلأ الوعاء، عاد به مسرعاً إلي الكوخ. واستمر يعمل: يخلط ويعجن نسباً مختلفة من تراب الطريق مع الرمل والطين.
وبعد أيام من العمل المتواصل حقق أسبدين اكتشافه. لقد خلط تراب الطريق بالطين، وصنع منه قوالب، قام بحرقها في نار شديدة، ثم عاد فطحنها. فأعطته مادة إسمنتية تتفاعل محتوياتها مع الجير عند إضافة الماء، فإذا تركت لتجف نتج النوع الجديد المنتظر من الخرسانة.
نظر أسبدين إلى كتل الخرسانة التي ابتكرها باستخدام خلطته الجديدة، فوجدها تشبه نوعاً من الحجارة يقتلع من منطقة بورتلاند. فقرر أن يسمي مادته الجديدة بالإسمنت البورتلاندي. وأصبحت حجارة بورتلاند في ما بعد هي مصدر ترابه السحري الذي يصنع منه خرسانته القوية.
وتضاعفت سعادة أسبدين باكتشافه وهو يراه محل تقدير زملائه، ويرى المباني الجديدة ترتفع أعلى وأعلى، قائمة على أساس قوي من الخرسانة الجديدة. ولما عاد إلى بيته ذات يوم ووجد في انتظاره خطاباً رسمياً موجهاً إليه، لم يشك في أنه يحمل إليه شكر حكومة بلاده لإسهامه الكبير في تطوير أعمال البناء والتشييد. فلما أخذ يقرأ محتواه، كاد يغشى عليه. كان دعوة للمثول أمام المحكمة، متهماً بسرقة تراب الشوارع، وهو ملكية عامة!
وامتثل أسبدين للقانون، وحكم عليه بغرامة مالية.
|