للروائي المصري الكبير إبراهيم عبدالمجيد قصة عنوانها "سماء زرقاء وبحر من اللازورد" تتكون من ثلاثة مقاطع. يبدأ اثنان منها بكلمتي "الفضاء الأبيض"، ليشكلا إحساساً لونياً بالفضاء "العديم اللون أصلاً" يذكرنا بإحساس الفنان التشكيلي الهولندي فنسنت فان غوغ بالفضاء في مرحلة من عمره الفني (والكلي) القصير.
يحمل المقطع الأول من هذه القصة عنواناً صريحاً هو "صيد العمر". فها هو بطل القصة الذي غادر الإسكندرية شاباً بسبب فتاة قاهرية أحبها على شاطئ البحر، يعود إلى مدينته زائراً كبقية زوار الصيف، وقد ترهل إحساسه القديم بهذه المدينة التي "أعلن الحب عليها" في طفولته. فتدهشه قدرة أولاده على الاستمتاع بالصخب والزحام، غير عابئين بالتلوث الذي شمل الماء والأرض والهواء.
الأمر الوحيد الذي يجعله يعود إلى ذلك الشاب، الذي كان محباً للمدينة، هو حرصه على الخروج مبكراً إلى البحر، من أجل الصيد، ولكي "يستطيع أن يمسك بالفضاء الأبيض وسماء اللازورد". ويكتشف أن المتجمعين عند موقع الصيد على الصخور الحشفية هم من كبار السن، وأن شصوصهم تخرج خالية دائماً، أما هو فما زال يصطاد. ولكن تساؤله عن حرص المسنين على الاقتراب منه يظل يلح عليه، حتى إنه يجد نفسه ينظر في المرآة عند عودته للمنزل، ويبتسم.
وفي المقطع الثاني يستمر نشاط الصيد، ويصير هو نفسه - بطل القصة وراويها - صيداً لحالة خاصة من الانتشاء بالمكان والمناخ وألوان الفضاء:
"إذا أنت استيقظت مبكراً في الإسكندرية ووقفت على شاطئ البحر وأحاطتك برودة الليل اللذيذة وهي تنسحب، شعرت بالزوال الرابض في سقف العالم أكثر مما تشعر به عند الغروب، وشعرت بأن الضوء يرمح في رأسك... لقد تم انتزاع الدماغ منه، وصار خلاء!"
عنوان المقطع الثالث "قيامة الماضي" واضح الدلالة أيضاً، وفيه يقوم الماضي من سبات عميق، فيرغب البطل رغبة شديدة في اصطحاب ابنه في رحلة صيد. فهو يذكر قبل زواجه أنه كان يحلم بأن يكون له ولد يخرج معه في رحلات يعلمه فيها صيد الطير وصيد السمك. وتتحقق الرغبة ويقصدان - مع صديقين للإبن- لساناً أرضياً يمتد في الماء عند "كازينو الشاطبي" حيث تكثر الأسماك. يسارع الإبن ورفيقاه مع أدوات الصيد إلى الماء، ويتركونه خلفهم يغلق أبواب سيارته في شارع شهير مواز لشارع الكورنيش. فجأة يهاجمه طعم الهواء ورائحته، ويبعثان في روحه حنيناً عريضاً.
هكذا، إذ يخرج لتحقيق رغبة شديدة في الصيد مع ابنه يفاجأ برائحة الماضي تحاصره أمام بيت يحمل له العديد من الذكريات، في شارع اشتهر بنشاط ساكنيه من طلاب الجامعة وفتيات الليل. وتتكامل رؤى الكاتب في المقاطع الثلاثة لتعطي إحساساً مكثفاً بالحزن على تسرب العمر و"خلو الشص من الصيد". وهي رؤى مغلفة بالتشاؤم في مجملها، بالرغم من أن أبطال القصص الثلاث يتحركون في فضاءات مفتوحة الآفاق ويعيشون غالباً في أزمان الطفولة.
|