مع حلول الخريف يبدأ المزارعون المصريون حصاد محصول الرز في عدد من محافظات دلتا النيل، مثل القليوبية والغربية والشرقية والدقهلية إضافةً إلى القاهرة الكبرى. ومع موسم الحصاد تبدأ معاناة المصريين من "السحابة السوداء" الناتجة بشكل رئيسي من حرق بقايا قش الرز.
هذه المعاناة السنوية، التي تحوّلت إلى مشكلة بيئية مزمنة، تنعكس على صحة المواطنين وتتجلّى بأمراض تنفسية حادّة، تبدأ بصعوبات التنفس ونوبات السعال والربو وقد تنتهي بحصول فشل كامل في الجهاز التنفسي. لذلك ليس من المستغرب أن يكون عدد الوفيات في مصر نتيجة تلوّث الهواء الخارجي بحدود 15,500 وفاة سنوياً وفق "موجز معلومات عبء الأمراض البيئية في مصر" الصادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2009.
لندرك حجم مشكلة تلوث الهواء في مصر، يكفي أن نطّلع على قاعدة بيانات تلوث هواء المدن التي أعدتها هذه السنة منظمة الصحة العالمية، وتضمّ بيانات 1622 مدينة في 91 بلداً، بالاعتماد على رصد تراكيز الجسيمات المعلّقة في الهواء مقاسةً بالميكروغرام في المتر المكعب.
تشير قاعدة البيانات هذه إلى أن مدن دلتا النيل تتربع في المرتبة 30 عالمياً للمدن ذات الهواء الأكثر تلوّثاً بين المدن الـ 1622، تتبعها مدينة القاهرة في المرتبة 34، وتسبقها مدن معروفة بتلوث هوائها الشديد خاصةً في شبه الجزيرة الهندية وغرب آسيا.
السحابة السوداء هي قمة جبل الجليد الظاهر، لأن أسباب تلوث الهواء في مصر أكبر بكثير من هذه المشكلة الموسمية. فالازدياد المطرد في أعداد السيارات والمصانع ومحطات الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفوري، إضافةً إلى الكثافة السكّانية العالية ومشاكل التخطيط الحضري وتدنّي مستوى الرقابة البيئية، كلها عوامل تساهم في تراجع نوعية الهواء.
مصر ليست الدولة العربية الوحيدة التي تعاني من مشاكل خطيرة في تلوث الهواء، إذ ان المعدّل الوسطي لتراكيز الجسيمات المعلّقة في الهواء يضع معظم الدول العربية التي تضمّها قاعدة البيانات ضمن الدول ذات الهواء الأكثر تلوثاً في العالم. فمن بين الدول الـ 91 التي تحتويها قاعدة البيانات، وبالاستناد إلى تركيز الجزيئات التي يساوي أو يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، يكون ترتيب الدول العربية الثماني التي تضمها قاعدة البيانات كما يأتي:
قطر في المرتبة الثانية عالمياً بعد باكستان، مصر في المرتبة السادسة، الإمارات في المرتبة الثامنة، البحرين في المرتبة العاشرة، الأردن في المرتبة الثالثة عشرة، عُمان في المرتبة الرابعة والعشرين، السعودية في المرتبة السابعة والعشرين، ولبنان في المرتبة الخمسين.
لقد تسبّب تلوث الهواء الخارجي في وفاة 3.7 مليون شخص عالمياً عام 2012. وإذا أضفنا الوفيات الناتجة عن تلوث الهواء الداخلي الذي بلغ 4.3 مليون شخص، يكون تلوث الهواء بشكل عام هو أكبر خطر بيئي يتهدد صحة الإنسان، بغض النظر عن الخسائر المادية الناتجة عنه.
لا نريد التقليل من المصاعب المرتبطة بتخفيض تلوّث الهواء في الدول العربية. ولكن على رغم معرفتنا بأسباب تلوث الهواء وحجم هذا التلوث وطرق معالجته، إلا أن إجراءات المعالجة لا تزال تقتصر على إصدار التشريعات الشكلية التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
الأسوأ من ذلك كله أن برامج الدعم الحكومي للطاقة لا تقيم وزناً للعوامل البيئية ومنعكساتها على الدخل الوطني. فبدلاً من أن يتوجّه الدعم إلى مصادر الطاقة النظيفة ذات الانبعاثات المحدودة، نجده يقتصر على حوامل الطاقة الأحفورية، وهكذا تكون الخسارة مضاعفة: خسارة أموال الدعم، وخسارة نفقات الرعاية الصحية، وكلفة معالجة التلوث.