ظلَّت القناة الثانية من التلفزيون المصري، لمدة عشرين سنة متواصلة، تقدِّم برنامجاً أسبوعياً ذائع الصيت هو "عالم البحار". وكان مقدِّمُ البرنامج يختلف تماماً عن نموذج مقدِّمي البرامج الذين اعتاد المشاهدون رؤيتهم.
كان شيخاً وقوراً ذا لحية رمادية، لعينيه زرقة ماء البحر، لا يبتسم، ولكنه غير عابس الوجه، لا ينطق حرف الراء نطقاً سليماً، بل أقرب إلى الواو. ولكن كانت له جاذبية خاصة تربط المشاهدين ببرنامجه، حيث كان حديثه الأسبوعي ينساب حيَّاً على الهواء في لغة بسيطة سليمة، لا تستعصي على الصغار، ويأنس لها الكبار. ويجد الجميع أنهم، أسبوعاً بعد أسبوع، يحصلون على وجبة علمية شهية، ويضيفون المزيد إلى رصيدهم من المعلومات عن أسرار البحار والمحيطات وخباياها.
إنه رائد علوم البحار الدكتور حامد عبد الفتَّاح جوهر، الذي لعبت المصادفة دوراً في توجهه لدراسة علوم البحار. فقد أراد أستاذه أن يكافئه على نجاحه الباهر في دراسة الماجستير، فرتَّب له رحلةً إلى محطة الأحياء المائية في مدينة الغردقة المطلَّة على البحر الأحمر. أعجب جوهر بالمكان، وطلب أن يلتحق بالعمل في المحطة، حيث أقام فيها إقامةً دائمة، متفرغاً لأبحاثه التي تناولت الشعاب المرجانية والأسماك والرخويات... وعروس البحر (الأطوم).
وللدكتور جوهر مع الحيوان المسمى عروس البحر حكاية طويلة. فقد قادته المصادفة إلى بعض عظامه متناثرةً على الشاطئ، فجمعها وعكف على دراستها. وأصرَّ على الحصول على نموذج حيٍّ، فصمم شبكة خاصة أمسكت بإحداها، وظل يدرسها لمدة 14 سنة. ونشرت المجلات العلمية العالمية نتائج أبحاثه ودراساته عن ذلك الحيوان الثديي البحري العجيب.
اشتهر الدكتور جوهر بتحـرِّي الدقة الشديدة في عمله، ولا بد أن ذلك كان أحد عوامل نجاحه كعالم كبير. ويروي تلاميذه حكايات عديدة في هذا المجال، منها حكاية فك الحوت. وملخصها أن الدكتور جوهر، عام 1949، علم باصطياد حوت ضخم في مدينة السويس. فأسرع إلى هناك، حيث وجد أن الحوت قد تم تقطيعه. فاحتجَّ على ذلك، وأخذ يجمع الحوت قطعةً قطعة. واكتشف أن أحد فكّية مفقود، فنشر إعلاناً في الصحف ورصد مكافأة لمن يعيد الفك الضائع، ونجح في استعادته.
اكتسب الدكتور جوهر احترام العديد من المؤسسات العلمية العالمية، وحظي بصداقة ملوك ورؤساء دول. أما التقدير الأكبر، في رأينا، فهو مشاعر الحب التي كانت تحيط به أسبوعياً، مساء كل ثلاثاء، حين كان يدخل إلى بيوتنا، ويطل علينا من خلال شاشة التلفزيون، بادئاً برنامجه بتحيته التقليدية: "مساء الخير".
|