صار بعض القادة السياسيين في العالم أســرى لما يمكن تسميته بالأصولية الاقتصادية، التي تلغي المستقبل من حساباتها. هـؤلاء القادة لم يعودوا يمثلوننا كمواطنين، وإنما كمستهلكين، وباتوا يركزون جهودهم على توفير الحماية القانونية الدولية للمنافع المتبادلة، وجعلها في مرتبة تعلو مرتبة الحقوق الأساسية للإنسان والمجتمع والبيئة.
فإذا أردنا تجنُّـب تزايد حدة المصادمات والضغوط البيئية في العالم، علينا أن نعيد تشكيل الجدل الدائر حول مســتقبلنا، ليشــتمل على بنود أخـلاقيـة، ويفرض قيـم مواطنينا على اقتصادياتنا، بـدلاً من العكــس. لقد اسـتنزف هؤلاء القادة رأسمال مواطنيهم من القيم الأخـلاقية والاجتماعية والطبيعية، أو كما يقول المثل الغربي: "باعوا رصيد العائلة من الفضة". إنهم يعتنقون التبضُّـع مذهباً، حتى أنه صـار جزءاً من دولبتهـم الجينية، ويســتخدمون عمليات تحليلية مضللة، وعقليات آلية، في التعامل مع أنظمة مفعمة بالحياة.
إن المتأمل المدقق لأحوال العالم في نصف القرن المنقضي يلاحظ أن السلوك الاستهلاكي المعربد لم ينجح في إضافـة مزيد من الســعادة لأغنيـاء العالم، بل إن أعداداً متزايدة من الناس أصبحوا يعانون القلق بصـورة أقســى، وتحيط بهم المثبِّطـات، مـع نظـام يضحي بالقيم المتجذِّرة فينا من أجل غرض وحيد، هو الاستهلاك العالمي، الذي يتعارض بصورة مباشـرة مع رغبتنا في الحفـاظ على كوكبنا صالحاً لمعيشة البشر.
إننــا بحاجة لأن ننقِّـي الجـدل الدائر في الأوسـاط العالمية، وألاَّ نقـول إلاَّ الصــدق. فكثير مما يتم قبوله الآن، من وجهة النظر السياسية، هــو في حقيقة الأمر ضـــرب من الإرهــاب الدولي، موجه إلى اقتصاديات الأجيال المتعاقبة. فالسماح للانبعاثات المتزايدة من غاز ثاني أوكسيد الكربون، التي تؤدي إلى تغير المناخ العالمي، يُعَـدُّ جريمة في حـق الإنسانية، وكذلك الأمـر بالنسـبة لإجبـار الفقـراء على أداء حقوق ديون مريبة، متجاهلين الديَّن التاريخي والبيئي المستحق على الشمال، فكما تدين تُدان.
لقد كان الأســلاف حريصين على مبدأ يقول بأنَّ شـركات القطاع الخاص التي تعمل لغير الصالح العام لا يحـقُّ لهـا أن تتمتَّــع بامتيـازات. وفي القرن الثامن عشر، كانت الحكومة البريطانية توقف أي مشـروع يتحامل على الخاضعين للتاج البريطاني أو يظلمهم أو يزعجهم. وحتى وقت قريب، كان تشـريع مماثل لا يزال سـاري المفعـول في الولايات المتحدة. لقـد تقوَّض ذلك الإجمـاع في الرأي الذي كان يسمح بوقف وإغـلاق الشركات. دمرته الأقلية الغربية الغنية وعمـلاؤها في الأوســاط السياسية والعدلية والإعـلاميــة، وهـم يعملون الآن على عولمة الأسس التي يتبنونهـا، ليحكموا العالم. إنهم يزعمون أن ما يوحِّـد بيننــا جميعـاً ما هـو إلاَّ الجشـــع. وهذا قول عــار مـن الصـدق، فنحن لا نســلك ســلوك المستهلكين إلاَّ حين تكون ثمة ضـرورة تدفعنا لنتعامل كمستهلكين، كما أن التبضُّـع لا يصبح التعبير الأساسي للمجتمعات العصرية إلاَّ عندما لا تكون ثمة بدائل مطروحة أو مطلوبة.
|