من الصعب إدارة عمل ناجح أو إعالة أسرة من دون حفظ سجل للدخل والمصروف. والإفلاس محتمل إذا كنا غافلين. لكن إذا فهمنا الدخل والمصاريف، والموجودات والمسؤوليات المترتبة، فيمكننا أن ندرك خياراتنا ونمسك بزمام أمورنا.
هذا ما دفعنا أنا وبيل ريس، قبل عشرين سنة، الى ابتكار «مَسْك حسابات» أثمن مورد على الأرض: قدرتها البيولوجية، أي قدرتها على التجديد والتعويض. المناطق السطحية تزودنا بالخدمات البيولوجية وتولد الكتلة الحيوية. لذلك فإن حسابات «البصمة البيئية» والقدرة البيولوجية تستخدم المناطق السطحية بإنتاجيتها البيولوجية كوحدة حسابية.
هذه الحسابات تمكننا من مقارنة مقدار موارد الطبيعة المتاحة لنا ومقدار ما نستهلكه. واحتسابها لجميع الدول الداخلة في النظام الاحصائي للأمم المتحدة هو في صلب عمل «شبكة البصمة البيئية العالمية» منذ انطلاقها عام 2003.
لقد نشرنا مؤخراً أحدث النتائج التي توصلنا إليها بشأن البصمة البيئية والقدرة البيولوجية. وتتوافر على موقعنا الإلكتروني (www.footprintnetwork.org) الاتجاهات الزمنية التي تظهر إمدادات القدرات البيولوجية للبلدان المختلفة وما تستهلكه هذه البلدان. يمكنكم على سبيل المثال الاطلاع على أرقام الدنمارك أو إسبانيا أو بريطانيا أو اليابان، فمن السهل رؤية تاريخها الاقتصادي الحديث بعد معاناتها تداعيات الأزمة المالية عام 2008. لقد انخفض معدل طلبات هذه البلدان على موارد الطبيعة بشكل حاد في مستهل الأزمة. كما أن الجداول والرسوم البيانية تلقي الضوء على مسار موارد كل بلد منذ 1961، وهي السنة التي بدأ فيها تجميع إحصاءات الأمم المتحدة بمنهجية أكبر.
الطلب البشري العالمي، أي بصمتنا البيئية، هو أكبر بأكثر من 50 في المئة من القدرة البيولوجية العالمية. وفي حين ازدادت القدرة البيولوجية العالمية بنحو 20 في المئة منذ 1961، وهذا سببه في الدرجة الأولى الزراعة المكثفة، فإن الطلب ازداد بنحو 270 في المئة، ما يعني أننا تحولنا عن إدارة الاحتياط العالمي للقدرة البيولوجية إلى تجاوز إيكولوجي كبير.
ويبدو الوضع أكثر إيلاماً على الصعيد الفردي، الذي يظهر كيف يختبر كل منا العالم. فالقدرة البيولوجية المتاحة لكل شخص تنقص سنة بعد أخرى، ما يصعِّب على الأرض أن توفر الموارد لكل واحد منا، ويفرض ضغوطاً استثنائية على الذين لا يملكون مداخيل كبيرة.
إني أشبِّه الوضع أحياناً بلعبة «الكراسي الموسيقية»، مع فارق أنها لا تمارس من أجل اللهو، بل تكون لها عواقب وخيمة على الذين يواجهون صعوبات متزايدة في الحصول على موارد مثل الغذاء والطاقة والمياه، خصوصاً في عالم يعاني من ضغط مناخي متزايد.
هذا الوضع هو من الأكثر تطرفاً في بلدان الشرق الأوسط، التي يحظى سكانها المتزايدون بقدرة بيولوجية محلية محدودة جداً، ما يلقي مزيداً من الضغوط على اقتصاداتها.
ومع ذلك، لا يبذل اهتمام يذكر لاحتساب القدرة البيولوجية. ويبدو وضعنا شبيهاً بطيار يقود طائرة تجارية غير مزودة بعدّاد للوقود. قد يكون وضع هذه الطائرة جيداً للإقلاع، لكن بعد أن تحلق وتصبح في الجو تكون ناقصة التجهيز بشكل يعرضها للخطر. فعلى الطيار أن يعرف كمية الوقود المتبقية في خزانات الطائرة، وهل تكفي للوصول الى الوجهة المقصودة. ما يدعو إلى العجب أن لوحات القيادة التي نقود بها اقتصاداتنا، سواء في الشرق الأوسط أو في أماكن أخرى، هي خالية من «عدّاد الوقود».
بالطبع، عداد الوقود بالنسبة إلى البلدان ليس فقط للوقود الأحفوري، بل للمجموعة الكاملة من الموجودات الحيوية التي تمكننا من أن نأكل ونشرب ونسكن ونلبس ونغتسل ونتنقل.
لكن الشعور المتزايد بالضيق لا يأتي متأخراً وفجائياً مثل دخول آخر قطرة وقود إلى توربين الطائرة. ولأننا نستطيع السحب فوق رصيدنا في حسابات مواردنا، يمكننا الاستمرار لبعض الوقت، حتى ونحن نقوِّض الموارد التي يعتمد عليها اقتصادنا الآن وفي المستقبل.
هذه القدرة على الاستمرار لبعض الوقت هي نعمة ونقمة في آن. هي نعمة لأن لدينا الفرصة لمواصلة نهجنا من دون أن تبطئنا عواقب سريعة. لكنها أيضاً نقمة لأننا نستطيع تجاهل الآثار ومواصلة تأخير اتخاذ التدابير اللازمة. وكما أن العجز في القدرة البيولوجية يتشكل ببطء، فإن عكس اتجاهه يستغرق وقتاً طويلاً أيضاً. لذلك فإن بُعد النظر هو العامل المنقذ.
لذلك نوصي بدراسة متأنية لحسابات البصمة البيئية والقدرة البيولوجية، لاكتشاف مدى وكيفية تأثير العجز المتنامي في القدرة البيولوجية على الأداء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. وهذا ما يجعلنا فخورين جداً بشراكتنا مع المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، التي توجت عام 2012 بنشر أول أطلس للبصمة البيئية والموارد الطبيعية في البلدان العربية. ■
ماتيس واكرناغل، رئيس شبكة البصمة البيئية العالمية (GFN) مشاركاً في مؤتمر «أفد» حول البصمة البيئية في البلدان العربية عام 2012