برقصته الشهيرة وتعليقاته الساخرة، أعلنها دونالد ترامب بوضوح في حفل تنصيبه بفترة رئاسته الثانية في تصريحه الشهير: "أحفر يا عزيزي، أحفر"، معلناً حقبة جديدة للاقتصاد الأسود والتوسُّع في التنقيب عن الطاقة الأحفورية ورفع إنتاج الفحم الحجري، عكس ما تحاوله الجهود العالمية للحدّ من الاعتماد على الوقود الأحفوري لما يسببه من انبعاثات لغازات الدفيئة، وتأكيداً على وعوده القديمة بالتحرر من أي التزامات مناخية، في ما يشكّل انتكاسة كبرى للجهود المناخية العالمية البطيئة أصلاً.
لا يمثّل ترامب النخبة الرأسمالية الجشعة فحسب، بل هو يمثّل تياراً شعبوياً يحمل أيديولوجية أوهام السيطرة الإمبراطورية كما قالها بنفسه. فهو صرَّح سابقاً أن تلك القوانين والاعتبارات البيئية ليست سوى قيود تهدد الهيمنة الأميركية في مجال الطاقة والاقتصاد العالمي، ومن ثم تهديد لعرش السيطرة الأميركية، كما تهدد الشركات الأميركية الكبرى، كما يزعم.
وترامب منذ ولايته الأولى في حالة عداء متصاعد وصدام دائم مع كل ما له علاقة بالبيئة والمناخ، ليس أقلّها خطراً إعلانه انسحاب الولايات المتحدة من "اتفاقية باريس للمناخ"، التي تهدف إلى خفض انبعاثات غازات الدفيئة والحدّ من ارتفاع حرارة الأرض إلى أقل من درجتين مئويتين، ومحاولة الإبقاء عليه عند 1.5 درجة كحدّ أقصى. لكن ترامب ومن معه اختاروا السير عكس الاتجاه العالمي للمرة الثانية وإلغاء توقيع الولايات المتحدة على الاتفاقية والتنصُّل من كل الالتزامات المتعلقة بحماية البيئة والمناخ العالمي. وهذا أثار حفيظة دول العالم والمنظمات الدولية، في ما وصفته كريستينا فيغيريس، الأمينة التنفيذية السابقة لاتفاقية الأمم المتحدة الاطارية بشأن التغيُّر المناخي بقولها: "إنها ضربة قوية للتحرُّك المناخي العالمي". وقد وصل به الأمر أنه اتهم في تصريح سابق علماء المناخ بأن "لديهم أجندة سياسية".
العداء مع العِلم: إقصاء وتهميش
نَتَج عن التزاوج بين العقلية الرأسمالية "الترامبية" واليمين الشعبوي، تيار عدائي لكل ما هو عِلمي، في ما يخصّ جهود حماية البيئة والمناخ في الداخل الأميركي وفي السياق الدولي. فترامب يرى في علماء البيئة والمناخ والمؤسسات العلمية تهديداً لسياساتِه، لذا بدأ معركته مع العلم والعُلماء.
اتخذ ترامب قرارات تنفيذية عدة في حربه على البيئة، بدأت بحجب المعلومات. فهو قرر عقب فوزه بولايته الثانية وقف العمل على تقرير تقييم المناخ الوطني– وهي مبادرة اتخذتها الحكومة الفيدرالية عام 2014 لدراسة أثر تغيُّر المناخ على الولايات المتحدة الآن وفي المستقبل- وهو تصعيد خطير من قِبل ترامب وفريقه، يشكّل تكميماً للأفواه وعدم الشفافية وحجب للمعلومات، التي هي حق للجميع. ولم يكتف بذلك، بل قام بوقف تمويل العديد من الهيئات البحثية المتخصصة في شؤون البيئة، ومنها معهد الأبحاث في جامعة برينستون المتخصص في أبحاث تغيُّر المناخ. كما قام بتخفيض عدد العاملين في قطاعات ووكالات بيئية عدة وتعيين عدد من المعادين للعمل البيئي.
لم يكن استهداف ترامب للمؤسسات البيئية العلمية والعاملين فيها سوى عداء ممنهج للعِلم والعُلماء. وبلغ به العداء إلى محاولات اعتماد أجندة تفكيك لوكالات بيئية كبرى كانت تقود أبحاث البيئة والمناخ لعقود عدة، ليس داخل أميركا فقط بل في العالم كله، على رأسها الوكالة الوطنية لأبحاث المحيطات والغلاف الجوي ومعها الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وتؤدي كل منهما دوراً حيوياً في إدارة الكوارث والبحوث المتعلقة بالبيئة والمناخ.
ولم يقف عند ذلك الحدّ بل وصل الأمر بالإدارة الأميركية إلى إجبار ناسا على إعلان أنها لن تنشر مستقبلاً تقريرها الدوري "التقييمات الوطنية للمناخ"، وهو تقرير فيه تفصيلات خاصة بالقياسات والتأثيرات المرتبطة بالتغيُّر المناخي في أنحاء الولايات المتحدة. ويهدف هذا إلى نسف الأساس العِلمي والقانوني لأسباب التغيُّر المناخي والمسؤولية البشرية، خاصة مسؤولية الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها بالطبع أميركا.
لم تمرّ تلك الإجراءات الكارثية التي اتخذها ترامب مرور الكرام، بل أثارت زوبعة إعلامية كبرى، وأغضبت العلماء والجهات البحثية بشدة، مما أدخلها في صراع مباشر معه. فها هو جون هولدرن، مستشار العلوم السابق في البيت الأبيض، يتهم ترامب بالكذب والتضليل قائلاً: "إن ترامب لا يريد أن يعرف الناس الحقائق، وكان ينوي منذ فترة طويلة فرض الرقابة على التقارير أو دفنها". ووصف ما تقوم به الإدارة المتطرفة بـ"التضليل المناخي" قائلاً: "انهم ببساطة لا يريدون أن يرى الجمهور المعلومات المجمّعة بعناية والمثبتة علمياً حول ما يفعله المناخ بالفعل بمزارعنا وغاباتنا، فضلاً عن العواصف والفيضانات وحرائق الغابات".
ولم يقف الأمر عند الرفض الداخلي، بل امتدت الصدمة إلى الشركاء الأوروبيين الذين كانوا يعتمدون في أنشطتهم البحثية على المؤسسات العلمية الأميركية، وهو أمر دفع بتصريح عدد من كبار المتخصصين والعُلماء في أوروبا إلى فك الارتباط "المناخي المعلوماتي" بين أوروبا وأميركا، والسعي نحو الاستقلالية البحثية. وهذا ينسف جهود عقود من البحث والقياسات والعمل المناخي المشترك الذي يخدم قضايا الإصلاح البيئي والمناخي لأجل البشرية.
نهج عدواني وعودة إلى الوراء
ولكن ماذا بعد التضليل المناخي والقرارات الكارثية بحجب المعلومات؟ هنا تأتي قرارات ترامبية أكثر كارثية ودماراً للبيئة المحلية والعالمية. فبعد إيقاف العديد من التقارير التي تصف الوضع البيئي، ووقف تنفيذ العديد من الشروط البيئية على الأنشطة الصناعية، أطلق ترامب العنان لشركائه الرأسماليين لينقبوا كما يحلو لهم، فقام بإلغاء قواعد الإفصاح المناخي للشركات، وهو أمر خطير يدفع لعدم الشفافية والتورط في التلوُّث وانبعاثات هائلة، مع ضمان عدم المساءلة أو المحاسبة.
وتتابعت قراراته بلا هوادة، فأصدر توجيهاً رئاسياً يدعو إلى زيادة إنتاج الفحم بلا ضابط، وهذا يمثّل انتكاسة لكل جهود خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويُنذر بمعدل انبعاثات كارثية تفوق التوقُّع. والسخرية في الأمر هو تعليق ترامب على قراره بأنه "إحياء صناعة الفحم الكبيرة والجميلة"، فقام بإعادة فتح مناجم الفحم، وأمر بتوسيع التنقيب عن الوقود الأحفوري في كل مكان، ومنها مواقع تُعتبر حدائق وطنية ومحميات طبيعية. وهذا يهدد بإبادة التنوُّع البيولوجي في مناطق هي أصلاً مهددة بفقدان ذلك التنوُّع. وامتد قرار التنقيب إلى أعماق البحار، بل إلى أقصى القطب الشمالي، رغم الاتفاقيات الدولية والمخاطر التي ستدمر أنظمة بيئية بأكملها. إنه مهووس بالربح ثم الربح ولا شيء غير ذلك.
لن تخسر أميركا وحدها بتلك الإجراءات المعادية للبيئة، بل سنخسر جميعاً. فالكوكب بأكمله مترابط، وما تفعله الولايات المتحدة بالهواء والتربة والماء سيصل للجميع بلا استثناء. فترامب وكل عقلية "شعبوية" تشكل خطراً وتهديداً لمستقبلنا ومستقبل أبنائنا وحقّهم في بيئة آمنة وحياة مستقرّة. لذا فهذا "النهج الترامبي" لا يعود بنا فقط إلى الوراء حيث "الاقتصاد الأسود"، بل يدمّر فرص التحوُّل الأخضر والمستدام وبناء اقتصاد بديل يزداد قوة وتوسعاً ولا يخسر البيئة. وهذا بالضبط ما أشار اليه سيمون ستيل، الأمين العام التنفيذي لاتفاقية المناخ، بقوله إن "الولايات المتحدة تخاطر بفرصة عالمية في قطاع الطاقة النظيفة يضمن أرباحاً كُبرى وملايين الوظائف ويحفظ هواءنا نقياً". لكن هذا الأمر لا يريد أن يدركه ترامب ومن معه من رُسل الدمار البيئي. إنه حالة مرعبة ستظل علامة في تاريخ النكسات الدولية الخاصة بحماية البيئة والمناخ من إفساد وتدمير البشر.
محمد علي الدين، كاتب ومدوّن مصري مهتم بقضايا العلوم والبيئة