الصحافة البيئية فرع من الصحافة العلمية، فمواضيعها تتطلّب من المُمارس الصحافي أن يكون لديه رأسمال معرفي حول نظام البيئة المكوَّن من كائنات حية (الإنسان والحيوان والنبات) وكائنات غير حية (الماء والهواء والتربة والشمس وماهو اصطناعي)، وقضايا التغيُّر المناخي (مثل الاحتباس الحراري والتطرُّف المناخي وثقب الأوزون- وغازات الدفيئة) والتنمية المستدامة.
قبل أن يشرع الصحافي البيئي في الكتابة، من الأفضل أن يطرح الأسئلة الآتية: ماذا أنشر (الموضوع)؟ ولمن أنشر (المتلقي)؟ ما الغاية من النشر (خلفية وأبعاد الموضوع)؟
فمثلاً إذا كان موضوع المقال الصحافي يتحدث عن ضرورة خلق نوادٍ للتربية البيئية في المدارس، ودمج المفاهيم البيئية في المقررات الدراسية (ماذا)، فإن الرسالة تعني المشرفين على قطاع التربية والتعليم، والأطُر التربوية والجمعيات الفاعلة في مجال التربية على البيئة (لِمن)، الغاية منها دفع المؤسسات التعليمية إلى الانخراط أكثر في نشر الثقافة البيئية وغرس الوعي البيئي لدى التلاميذ.
وقد شرح نجيب صعب مضامين وأهداف وتقنيات الإعلام البيئي في دراسة أعدّها عام 2006 لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، وصدرت عام 2008 في كتاب بعنوان "البيئة في وسائل الاعلام العربية". من الأفضل أن تكون مواضيع الصحافي البيئي قريبة من انشغالات المواطنين (انعكاسـات التغيــُّر المناخــي علــى الصحــة والأمنين المائي والغذائــي والهجــرة المناخيــة، انعدام الماء الصالح للشرب في منطقة معيّنة وعلاقته بالاستقرار الاجتماعي، كارثة طبيعية أضرّت بالمجتمع المحلي، أدخنة تقذفها مصانع تخنق السكان، ارتفاع أسعار الطاقة وأثرها على الواقع المعيشي...) تصاغ في قالب إنساني على شكل قصة بأسلوب سلس قابل للفهم والإدراك لتكون جاذبة للمتلقي ومؤثرة فيه.
لكي ينجح الصحافي البيئي في تخصصه من الضروري أن يكون على اطلاع بالاتفاقيات الإيكو - مناخية الدولية، وملمّاً بالمفاهيم البيئية الأساسية، إلى جانب مضامين الاتفاقيات الدولية المعنية بالبيئة. وأبرز المفاهيم البيئية الأساسية التي يتوجّب الإلمام بها تشمل: التنوُّع البيولوجي، والتصحُّر والتغيُّر المناخي والاحتباس الحراري وتخفيف الانبعاثاث والتكيُّف المناخي، وثقب الأوزون والاقتصاد الدائري والطاقات المتجددة، والعلاقة بين التطرُّف المناخي والطقس والمناخ والهجرة المناخية، والغسل الأخضر والبصمة الكربونية والاقتصاد الأخضر، والتنمية المستدامة عامة.
ومع تزايد الترافع من أجل حماية البيئة ومكافحة التغيُّرات المناخية والانخراط في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، تبلور مطلب الحق في الحصول علـى المعلومة البيئية، كمطلب ديموقراطي لضمان المشـاركة الفعالة فـي الحفاظ على البيئة.
الحق في الوصول إلـى المعلومـة نصّت عليه العديـد مـن الاتفاقيات والمعاهـدات الدوليــة، مثــل إعلان ريودي جانيرو 1992 بشــأن البيئة والتنمية، والإعلان العالمــي لحقــوق الإنســان فــي المــادة 19 منــه، والميثــاق الأفريقي لحقــوق الإنســان والشــعوب، وميثاق أراهوس 1998 الذي يُعتبــر أول اتفــاق دولــي مُلــزم قانونيــاً يحــدد معاييــر واضحــة في مــا يخــص حريــة الوصــول إلــى المعلومــة البيئية، والذي صادقت عليه الدول بالتدريج. وقد أصدر المغـرب القانـون عـدد 13-31 الذي يتعلـق بالحـق فـي الحصـول علـى المعلومات.
والأكيد أن الحصول على المعلومة البيئية يتطلب التحقق من مصداقية المصادر، ففي السنوات الأخيرة ومع الثورة الرقمية كثرت الأخبار المزيفة والكاذبة، بل هناك مواقع عدة تنشر بيانات ومعطيات بيئية مضللة ومغلوطة تخدم مصالح اقتصادية كبيرة. وهذا ما حدث عندما بدأ الحديث عن التغيُّر المناخي، حيث ظهرت مواقع تدّعي العلمية تشكك في الظاهرة وتنفي وجودها، فتبين لاحقاً أنها كانت مرتبطة بلوبي صناعي عالمي.
وفي ما يأتي بعض المصادر الموثوقة التي من الممكن الاعتماد عليها من طرف الصحافي البيئي:
1- المصادر الرسمية:
- القطاعات الوزارية والمديريات التابعة لها: الاطلاع علــى البيانــات المنشــورة علــى مواقــعها وبواباتها الرســمية، أو من مصادر مقرّبة من أصحاب القرار، أو بإجراء لقاء صحافي مع مسؤول معني مباشرة بالموضوع.
- الوكالات: كوكالات الأحواض المائية (إذا كان الموضوع يتعلق بالماء)، الوكالات الحضرية (التجزئات العقارية والفضاءات المخصصة للمساحات الخضراء) ووكالة صيانة المآثر التاريخية (كصيانة الفضاءات الأثرية الايكولوجية)، الوكالة الوطنية للمياه والغابات (القطاع الغابوي) وغيرها.
- المديرية العامة للأرصاد الجوية.
- الجماعات المحلية: مجالس الجهات- مجالس الجماعات القروية والحضرية- مجالس الأقاليم.
ومن المصادر المباشرة الشرطة البيئية والشرطة المائية، إذا وجدتا.
- السلطة المحلية: الولايات - العمالات – المقاطعات (حيث نجد داخل كل منها مصلحة البيئة).
2- المصادر المدنية:
الجامعات والمعاهد العلمية ومراكز الأبحاث، الجمعيات والمنظمات البيئية، التعاونيات، الجمعيات السكنية، الاختصاصيون.
3- المصادر الدولية:
يمكن للصحافي البيئي اسـتعمال قواعـد البيانـات من مواقـع وبرامج المنظمـات والهيئات الدوليـة للحصـول علـى مصـادر موثوقـة حـول القضايـا البيئيـة، ومن أهم هذه المنظمات:
- منظمــة الأغذية والزراعــة للأمم المتحــدة "الفــاو"
- برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)
- منظمـة غرينبيـس للشـرق الأوسط وشـمال إفريقيـا
- المنظمــة العالميــة للأرصاد الجويــة
- الصنــدوق الأخضر للمنــاخ
- المركـز العربـي لسياسـات تغيـُّر المنـاخ "الاسـكوا"
- الهيئـة الحكوميـة الدوليـة المعنيـة بتغيـُّر المنـاخ
- الشبكة العالمية للمحيطات
- الصندوق العالمي للطبيعة
- المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ولا نغفل أن هناك منظمات دولية أخرى لها بوابات تتضمن بيانات ومستجدات بيئية ومناخية مهمة قد تشكّل سنداً وثائقياً للبحث الصحافي البيئي.
ولا يكفي الصحافي البيئي أن يكون ملمّاً بالاتفاقيات الدولية، والمفاهيم البيئية والمناخية الأساسية، وعلى دراية بالمصادر الموثوقة، بل إن الأمر يتطلّب نباهته وأسلوبه في التعامل مع مصادره واقتناص المعلومة.
فالحصول على المعلومة البيئية لا يكون دائماً بالأمر السهل، خاصة إذا كان الصحافي يستقصي حول موضوع حساس يمس مصالح أطراف متعددة. فمثلاً البحث في موضوع مصنع له وزن اقتصادي في المنطقة ينفث أدخنة سوداء، صاحبه أو أصحابه لهم نفوذ في البلد.
فعلى الصحافي الاستقصائي أن يضع أمام نفسه جميع الاعتبارات، ويعمل وفق تصور وبرنامج منظم، مثل:
- أن يقوم بجولة في المنطقة التي يوجد فيها المصنع، يلتقي بالسكان المجاورين له أو بالجمعية السكنية إذا وجدت ويستمع لها، مع فتح إمكانية الإجابة عن الأسئلة من قبيل: هل هذا المصنع قديم أم حديث النشأة؟ هل الأدخنة التي تنبعث منه طيلة السنة أم في فترة محددة؟ ما نوع الضرر الذي يُلحقه بهم؟ هل تلك الأدخنة نتنة وكريهة؟ هل تتسرب إلى منازلهم وتلتصق بأفرشتهم وأثاثهم؟ هل قدموا شكاوى إلى الجهات المعنية؟ هل استجابت تلك الجهات أم لا؟ ماذا ينتظرون من تلك الجهات، إغلاق المعمل أم المطالبة باحترام المعايير البيئية؟
- يقوم الصحافي بعد حصوله على نسخ من شكاوى المواطنين بالانتقال إلى الجهات المعنية لمعرفة مصيرها. فهل هناك من إجراءات ستتخذها تجاه المصنع، خاصة إذا ثبت الضرر الصحي؟ وأين دور الشرطة البيئية، خاصة إذا كان التلوُّث الناتج عن المعمل يخالف المعاهدات والاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية؟
- كما على الصحافي البيئي ألا ينسى في استقصائه لقاء المختصين وأطباء المصحات العمومية والصيدليات القريبة للوقوف على تأثير الأدخنة على صحة السكان، موجهاً لقاءه بالأسئلة التالية: ما نوع الأمراض التي قد تحدثها تلك الأدخنة خاصة إذا كانت رائحتها كريهة؟ ما تأثيرها على صحة الأطفال والنساء الحوامل والمسنين؟
- ولكي يكون التحقيق مكتملاً، على الصحافي أن يدق باب إدارة المصنع للاستماع إليها، وللإجابة عن الأسئلة التالية: ما الأسباب التي تجعل المصنع ينفث أدخنته السوداء في الهواء؟ هل الأمر مؤقت وهل تخططون للإصلاح ومنع ذلك التلوُّث الذي يصدر من المعمل؟ هل تعرفون أن الأدخنة تزعج سكان الجوار وتسبب لهم أضراراً صحية؟ هل حصل المعمل على دعم صندوق مكافحة التلوُّث؟ هذا في حال استقبلته إدارة المصنع، فغالباً ما تنغلق المعامل الملوّثة على نفسها!
وفي حالة رفض إدارة المصنع استقباله، يلجأ الصحافي إلى البحث بوسائله الخاصة عن مصادر من داخل المعمل لاستقاء معلوماته واستثمارها في بحثه مع الحفاظ على سرية مصادره.
إن التحقيق الصحافي البيئي هو سيد الأجناس في مجال الصحافة البيئية، إذ يتطلب الصبر وتخصيص الوقت الكافي لإنجازه، كما يكون مكلفاً مادياً، خاصة إذا كان موضوع التحقيق في منطقة نائية عن السكن الأصلي للصحافي.
وقد يتعرض الصحافي الاستقصائي في بعض الحالات إلى التخويف والترهيب أو الإغراءات، لذا عليه أن يتحلى باليقظة، ويتيقّن من صحة الوثائق التي يحصل عليها، ويعكس الواقع كما عاينه بموضوعية مع أنسنة كتابته، لأن الغاية الأسمى من التحقيق الصحافي البيئي الميداني البحث عن الحقيقة، والانخراط في التنمية المستدامة التي تقتضي التوازن بين ما هو اقتصادي واجتماعي وبيئي.
عبد المجيد بوشنفى، رئيس الجمعية المغربية للإعلام البيئي والمناخ