المنتدى السعودي للإعلام، الذي استضافته الرياض أخيراً، بحث في قضايا كبرى طاولت التكنولوجيا والمحتوى، بمشاركة مئات المتحدثين من أصحاب الاختصاص. لكن ميزته الكبرى كانت الحضور الطاغي للشباب السعودي الطامح إلى المساهمة في صناعة المستقبل، عن طريق الانخراط الجدّي في مهنة الإعلام بفروعها المتشعّبة. لقد وفر المنتدى فرصة ثمينة للجيل السعودي الجديد، المهتم بدراسة علوم الإعلام والعمل في وسائله المطبوعة والمسموعة والمقروءة، التقليدية والحديثة، للتفاعل مع خبراء في المهنة من المنطقة والعالم، بقصد الإفادة من تجاربهم والاستماع إلى نصائحهم.
لقد اختبرتُ هذا شخصياً حين جاءتني شابّة سعودية تتدرّب في الصحافة المكتوبة، بعد تخرُّجها في الإعلام، لتعرض بعض كتاباتها المنشورة في مواضيع اجتماعية وثقافية، وتسأل عن الشروط المطلوبة للكتابة في مجالات البيئة والتنمية المستدامة. وبعد حديث طويل، سألتْ عما إذا كنت أنصحها بالعمل في التلفزيون، فأجبتُ أن الصحافة تقوم على إعداد المحتوى الجيّد، الذي هو الأساس في الوسائل الإعلامية بكل أنواعها. وأضفتُ أن على مقدّم البرامج الإذاعية والتلفزيونية أن يتمتع بثقافة عامة، فلا يقتصر دوره على قراءة نصوص جاهزة. وهنا أحلتُها إلى مُحاضِر مختصّ بالبرامج التلفزيونية، من كبار الخبراء في هذا المجال. وكانت مكافأتي بريق الأمل والإصرار على التعلُّم والنجاح الذي لمع في عينيها.
دور الإعلام في تعزيز التحوُّل الطاقوي المستدام كان موضوع الجلسة الافتتاحية في المنتدى، ما يعبّر عن نظرة ثاقبة تعكس التوجُّهات المستقبلية التي تضمنتها "رؤية 2030" السعودية. فبدلاً من الاكتفاء بردود الفعل الدفاعية، تنتقل السعودية الحديثة إلى المبادرة في طرح برامج بديلة متقدّمة، تقوم على الموازنة بين المتطلبات المناخية والبيئية واحتياجات التنمية، مع توزيع عادل للالتزامات.
وكما في الجلسة الأولى، اختتم المنتدى أعماله بحوار عن دور الإعلام الإنمائي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وبين الاثنتين، كانت جلسة عن أثر التشريعات الإعلامية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. لكن فيما استفاض المتحاورون في الحديث عن التوعية والإرشاد وضبط التجاوزات والتصدي للأخبار الكاذبة والمغرضة، مروا سريعاً على دور الإعلام في مراجعة الخطط الوطنية، لتفحُّص قدرتها على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ومتابعة مراحل تنفيذ البرامج، للتحقُّق من مطابقة النتائج مع التوقعات. فهناك دور أساسي للإعلام في تصحيح المسار والتنبيه إلى أوجه القصور، وإلا انحصر دوره في الإشادة بالإنجازات والنجاحات. كما ينطوي الإعلام الاستقصائي على مراقبة أداء القطاع الخاص، بما فيه التحقق من الالتزام بالوعود وكشف ممارسات "الغسل الأخضر".
ناقشت الجلسات العامة مواضيع المحتوى الإعلامي، وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي وتطبيقات "الواقع الافتراضي" المساهمة في إحداث تحوُّل إعلامي نوعي. كما نوقشت سبُل الشراكات بين الإعلام المحلي والأجنبي، بما فيها فرص الاستثمار. وكان إلى جانبي المدير التنفيذي لواحد من أكبر المكاتب الاستشارية الحقوقية في السعودية، وهو مختصّ بالجوانب القانونية للاستثمار، الذي حدّثني عن اهتمام متزايد لزبائنه بالاستثمارات في وسائل الإعلام الحديثة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. ونفهم هذا حين نعرف أن السعودية أعلنت عن مشروع بقيمة مئة بليون دولار لتطوير البيئة المحلية للتكنولوجيا والاستثمار في مراكز البيانات والبنى التحتية والتدريب، لوضع المملكة في موقع تنافسي متقدم على خريطة الذكاء الاصطناعي.
ولم يقتصر المنتدى على الجلسات العامة، بل استضاف عشرات الندوات لعرض التجارب والتدريب في مجالات متخصصة. وهي تميّزت بتبادل الخبرات بين كبار المحترفين الذين حققوا نجاحات في حقولهم، ونقل معارفهم إلى جيل جديد يحمل شغفاً بمهنة الإعلام. لكنه تميّز بغياب أية صحف ورقية عن طاولاته وفي أروقته. حتى أنها غابت عن غرف الفندق الذي استضاف المدعوين، وكأن الصحيفة الورقية أصبحت جزءاً من الماضي. ولأول مرة لم توزَّع أية جريدة أو مجلة ورقية في المعرض المرافق، إذ اكتفت المؤسسات المشارِكة التي تُصدرها بعرض صور لأغلفتها على منصاتها. ومع شبه غياب للراديو عن المعرض المرافق، استقطبت الشبكات المتخصصة للألعاب والتواصل اهتماماً أكبر من الشبكات التلفزيونية. فهل هذا يعني انحسار دور الإعلام التقليدي أو موته؟
لا شك أن جزءاً كبيراً من جيل الشباب حول العالم تخلّى عن قراءة الصحف الورقية ومشاهدة برامج التلفزيون، مكتفياً بمتابعة الأخبار والتحليلات في الوسائل الإلكترونية، بما فيها مواقع الصحف والتلفزيونات، وانتقاء ما يرغب فيه من المقالات والبرامج التلفزيونية والإذاعية المتوافرة على شبكة الإنترنت في أي وقت يختاره. لكن الصحيح أيضاً أن الصحف والمجلات وشبكات التلفزيون والإذاعة لا تزال تستقطب مجموعات كبيرة من المهتمين في الدول المتقدمة، ويعتمد معظمها على الدخل من الاشتراكات والمبيعات والإعلانات لا الدعم الحكومي. هنا يلحّ السؤال: أتكون المشكلة في القارئ والمشاهد العربي أم في وسائل الإعلام التي تخلّفت عن الركْب؟
كان هناك اتفاق بين المتحاورين في المنتدى أن ثقة الناس بوسائل الإعلام التقليدية، على أنواعها، تتفوّق على ثقتهم بوسائل التواصل الاجتماعي. فقراءة خبر أو تعليق في جريدة أو الاستماع إليه ومشاهدته في إذاعة أو تلفزيون أو موقع إلكتروني يحمل إسماً وهوية، أقرب إلى تصديقه مما إذا جاء من مواقع التواصل الاجتماعي المجهولة المصدر.
تقصير وسائل الإعلام التقليدية في نشر الأخبار الصادقة وتقديم تحليلات واقعية، كما في نقل آراء الناس، حوّل الجمهور إلى وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع المجهولة المصدر، التي تعتمد الشعبوية لاستقطاب الاهتمام. والحل يكون في تطوير وسائل الإعلام التقليدية، من صحف ومجلات وتلفزيونات وإذاعات، إلى جانب المواقع الإلكترونية المعروفة المصدر، لتنقل الحقيقة كما هي، بلا تجميل وانتقائية وتأخير، بواسطة صحافيين مدرَّبين، وتقدم تحليلات موضوعية صريحة، بالإضافة إلى ممارسة دورها الرقابي المسؤول على البرامج والمشاريع. كما عليها أن تكون منبراً للناس، فلا يلجأون إلى وسائل التواصل الشعبوية كمكان وحيد للتعبير.
من أساسيات مبادئ الأخلاق الإعلامية، التي ناقشها منتدى الإعلام السعودي، أنه من الأفضل أن تكون الثاني في نقل الخبر الصحيح على أن تكون الأول في نقل الخبر الكاذب. لكن على وسائل الإعلام أن تتنافس لتكون الأولى في الوصول إلى الخبر الصحيح وتحليله ونقله سريعاً على نحو مهنيّ مسؤول. فالمبالغة في الحيطة والحذر تتساوى مع التسرُّع، وهي ما يدفع الجمهور إلى متابعة وسائل التواصل الاجتماعي الشعبوية وتصديقها.