مع بداية سنة جديدة، نتساءل عن مدى الاستجابة الدولية والوطنية لتحديات البيئة والتغيُّر المناخي، وعمّا إذا نحن اليوم في موقع أفضل مما كنا عليه؟ وهل تبني الحكومات سياساتها الإنمائية على أسس الإدارة المتوازنة للموارد الطبيعية، لتخفيف البصمة البيئية ضماناً لاستدامة التقدُّم الإنساني وسعادة مواطنيها أم لرفع أرقام النمو الاقتصادي فقط؟ لم يحمل العام الماضي أية حقائق بيئية ومناخية جديدة عدا تسارع وتيرة التدهور وفظاعة الكوارث الطبيعية التي يفاقمها تغيُّر المناخ. وكأن كل المؤتمرات والقمم أصبحت تكراراً للكلام نفسه ومضيعة للوقت والمال والجهد، لتجنُّب الإجابة عن السؤال الأساسي: من يدفع الثمن؟
هنا أتذكر حين تحدثت قبل عشر سنوات في عمَّان عن الاقتصاد الأخضر والإدارة المستدامة للموارد، في إطار تعزيز الكفاءة وترشيد الاستهلاك. قلت حينها إن هذا يبدأ من الثلاثية المترابطة، الماء والغذاء والطاقة، عبر تنفيذ سياسات تضمن وصول هذه الموارد والخدمات إلى الناس على نحو عادل. علينا إنتاج أكبر مقدار ممكن من الغذاء بأقل كمية من المياه، وتأمين المياه العذبة للاستخدام البشري والزراعي باستهلاك أقل ما يمكن من الطاقة، واستخدام الطاقة في المنازل والمكاتب والمصانع بأعلى معدلات الكفاءة، وإنتاج الطاقة بأساليب تخفف من الانبعاثات الضارة للمناخ والصحة البشرية معاً. ولأن هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق بدون ترشيد الاستهلاك، ولأن التوعية والإرشاد لا يكفيان لتحقيق متطلبات الترشيد، فقد اقترحتُ في حينه رفع الدعم العشوائي الذي يشجع الهدر ويذهب معظمه الى الأغنياء، وتسعير المياه والكهرباء والمحروقات بما يدفع إلى الالتزام بالتدابير التي تحقق الكفاءة، إلزامياً وليس طوعيّاً.
حين عمدت الحكومة لاحقاً إلى رفع أسعار المياه والكهرباء وسط احتجاجات شعبية، ذكَّر بعضُهم بحديثي عن الموضوع وما طالب به المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) دائماً في تقاريره ومؤتمراته، وكأنهم يلوموننا على ما حصل. لكن فاتهم أن مطالبتنا كانت بخطة متكاملة، تؤمّن خدمات مستقرة بكلفة عادلة. وقبل إلغاء الدعم العشوائي الذي يصل معظمه إلى الميسورين من أصحاب معدلات الاستهلاك الأعلى، كان المطلوب وضع تدابير لخفض تكاليف الإنتاج وتطبيق نظام الشرائح على المستهلكين، والدعم المباشر لغير القادرين.
ما كان صحيحاً قبل عشرة أعوام لا يزال يصحّ اليوم. فلا أمل لنجاح أيّ سياسات عامة، بما فيها البيئية والمناخية، إذا افتقرت إلى شرط العدالة. ومن هنا نبدأ. فأين نحن اليوم من العمل البيئي والمناخي، في عالم متفجّر تحكمه المصالح؟ وهل يمكن تحقيق العدالة البيئية والمناخية بمعزل عن الحق الإنساني، من فلسطين إلى أوكرانيا، مروراً بسورية ولبنان والعراق واليمن والسودان، من بين 92 بلداً متأثراً بالحروب والنزاعات حالياً، وهو الرقم الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية؟ وإذا نظرنا بتمعُّن، نجد سبباً جوهرياً وراء هذه النزاعات المسلحة هو الصراع على الموارد الطبيعية، خاصة المياه والنفط والغاز والمعادن والأراضي الخصبة. فالتفوّق في النموّ الاقتصادي يعتمد على هذه الموارد، وهو ما برح المعيار الطاغي، وليس التقدُّم الإنساني. وفي حين كان المطلوب أن يؤدي اعتماد مفهوم "التنمية المستدامة" إلى رعاية البيئة وتوازن الموارد الطبيعية لضمان تجدّدها، وهي أساس استمرار التنمية، يبدو أن جماعة النموّ الاقتصادي الرقمي نجحوا في اختطافها، معتبرين أن استدامة التنمية تنحصر في استمرار ارتفاع حجم الاقتصاد. وعندما ساهمنا مع كلاوس توبفر في وضع شعار "البيئة من أجل التنمية"، كنا نقصد أن البيئة السليمة والنظيفة ورعاية الموارد لضمان تجدّدها شرطان للتنمية. لكن حين اعتبرت حكومات وشركات أن هذا الشعار يعطيها حقاً لاستنزاف الموارد وتدمير البيئة لتحقيق التنمية الاقتصادية المنفلتة، صرنا نخجل من علاقتنا في إطلاقه.
وإذ لم يبقَ في الإمكان مواجهة المدّ البيئي الهادر، الذي ازداد زخماً بعد اطلاقه قبل خمسين عاماً، بالرفض المطلق لتدابير رعاية البيئة والموارد، تم اختطاف مفهوم "التنمية المستدامة" الجديد لتغطية الجرائم البيئية. وينطبق الأمر نفسه على العمل المناخي، بعدما فرضت حقائق تغيُّر المناخ نفسها كوقائع دامغة، وخسر المشككون، بمن فيهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حججهم. كما خسروا خط الدفاع الثاني، وهو أن المناخ يتغيّر وفق دورات طبيعية لا علاقة للنشاطات الإنسانية بها.ومع سقوط هذه الحجة أيضاً، والثبوت بالعِلم والواقع أن النشاطات الإنسانية، ولا سيّما تعاظم الانبعاثات الكربونية منذ الثورة الصناعية، هي المسبب الأساسي للتغيُّر المناخي بوتيرة سريعة تفوق قدرة البشر والطبيعة على التأقلم، تمثًّل خط الدفاع الأخير بالادعاء أنه لن يمكن وقف التغيُّر المناخي، لذا لا بد من القبول به كواقع، وإعطاء الأولوية للتعامل مع نتائجه، مع الاستمرار في الممارسات نفسها.
لكن حتى تدابير التأقلم ومواجهة آثار التغيُّر المناخي التي لن يمكن وقفها تحتاج إلى استثمارات ضخمة، تفوق الاستثمارات المطلوبة لوقف الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري. وهذا يضع العالم في مواجهة التحدّي المركزي، وهو توزيع التكاليف. هذه نقطة الخلاف المحورية بين مجموعات الدول المتقدمة الغنية، والدول النامية، والدول المنتجة للنفط. كما هي موضوع خلاف داخل هذه المجموعات نفسها. فكل مجموعة تعمل لرمي المسؤولية الأكبر على الآخرين، وشراء مزيد من الوقت للاستمرار في النمو الاقتصادي بأقل ما يمكن من الضوابط والقيود.
ولا يقل خطراً عن التملُّص من التزامات العمل المناخي اتخاذُ بعض الحكام من تغيُّر المناخ حجةً لتبرير فشل السياسات الإنمائية. فإدارة الموارد على نحو متوازن يكفل تجدُّدها، والحدُّ من التلويث وإنتاج النفايات، وإنشاءُ البنى التحتية الملائمة، مهمات ضرورية في جميع الحالات. ذلك أن تغيُّر المناخ لا يبرّر، على سبيل المثال، الحرائق الناجمة عن إهمال الإدارة السليمة للغابات والسماح بالتمدد العمراني العشوائي إلى مناطق حساسة. وترشيد إنتاج واستهلاك المياه والطاقة والغذاء يسبق التذرُّع بالمناخ لتبرير التقصير.
العمل المناخي بين نوعية الحياة وأرقام النمو
بعد ثلاثين عاماً من القمم المناخية، لم تعد حقيقة تغيُّر المناخ هي الموضوع، إذ ينحصر الخلاف الحقيقي اليوم في تحديد من يدفع الثمن. فحين يجلس المفاوضون على الطاولة، تحكم مواقفَ كل مجموعة المصالحُ الاقتصادية لدولها: مجموعة الدول النامية الفقيرة تطالِب بمساعدات ضخمة غير مشروطة لتخفيف الانبعاثات والتكيف مع المتغيّرات، إلى جانب تعويضات من الدول الصناعية التي تسببت بأكبر مقدار من الانبعاثات تاريخياً. ودول الاقتصادات الصناعية المتجددة، بقيادة الصين، التي أصبحت المصدر الأول للانبعاثات، لكنها ما زالت تطالب بفترات سماح إضافية وإعفاءات من الالتزامات، كأنها تريد الحصول على حقها بالتلويث. والدول المتقدمة الغنية التي، مع قبولها بمبدأ وقف الانبعاثات بحلول سنة 2050 وتقديم مساعدات مالية إلى الدول النامية لدعم تحوّلها إلى الطاقات النظيفة والتأقلم مع المتغيّرات، تحاول تقليص مساهمتها والتملّص من مبدأ التعويضات عن آثار الانبعاثات التي تسببت بها تاريخياً. والدول الجزرية الصغرى، المهددة بالزوال من الوجود مع ارتفاع البحار بسبب تغيُّر المناخ، تطالب بخطوات عاجلة لوقف فوري للانبعاثات، متحملةً نتائجها الكارثية في حين لم تتسبب بها. أما الدول المنتجة للنفط، وعلى الأخص تلك التي ما برحت اقتصاداتها تعتمد عليه كمصدر دخل أساسي لرفع معدلات النمو، فتعتبر التخلُّص السريع من الوقود الأحفوري ضرباً لمصدر رزقها وفرصها في تحقيق أهداف التنمية. وهذه كلها مخاوف مشروعة.
وسط هذه الصراعات على المصالح - التي تراوح بين المطالبة بحق البقاء على قيد الحياة في دول الجزر الصغرى، وحق التطوُّر في الدول النامية بما فيها تلك المصنَّفة "نفطية"، والتمسك بالاستمرار في رفع مستويات الرفاه والرخاء في الدول الغنية، تحت شعارات مثل "أميركا أولاً" الذي لم يكمله صاحبه بعبارة "ومن بعدنا الطوفان" - يتجنب مفاوضو المناخ الإجابة عن السؤال الأهم: ما العمل إذا انحصر الخيار بين النمو الاقتصادي والتقدم الانساني، أو بين رفاهية الحياة والحياة نفسها؟ المسؤولية الأولى هنا تقع على الدول الصناعية الغنية، التي يتحتم عليها وضع حدود للنمو المنفلت والقبول بمستويات أقل من الرفاهية، إفساحاً في المجال للدول الفقيرة والتي هي في طور النمو للحاق بالركب.
لا أظن أن دونالد ترامب نفسه، وهو ليس غبياً في أمور المال والاقتصاد، يصدِّق أن الولايات المتحدة بعيدة عن آثار تغيُّر المناخ المدمِّرة، التي تتعاظم في بلده سنة بعد سنة. والواقع أن سياسة "حافة الهاوية" التي يعتمدها تقوم على دفع الآخرين، خاصة الصين، إلى تقديم التزامات أعلى في تسريع خفض الانبعاثات والتمويل، لأنه يعتبر أن التوزيع الراهن للالتزامات يعطي الصين فرصة أكبر للتفوق اقتصادياً.
من أساليب التفاوض المناخية الحديثة، بعد سقوط مناورات الإنكار، خلق أهداف بعيدة المدى يصعب التحقق من تنفيذها مرحلياً، وكلما اقترب الموعد يخلق المفاوضون أهدافاً جديدة، مع أملهم أن تسدَّ دول أخرى العجز خلال الوقت الضائع. وبدلاً من رفض المقترحات المعروضة والتعطيل الفج بمغادرة طاولة المفاوضات، كما كان يحصل في السابق، يعتمد المفاوضون الجدد، المدرّبون علمياً ودبلوماسياً على أعلى المستويات، استراتيجية التأخير، بطرح المبادرات والبدائل القائمة أساساً على اختراقات تكنولوجية، مثل جمع الكربون وتخزينه، أو زراعة مليارات الأشجار لامتصاصه، فلا تبقى حاجة لوقف حرق الوقود سريعاً. هذه أهداف مشروعة ونبيلة. لكن إذا لم تتحقق التمنيات، فتأخر تطبيق تقنيات التقاط الكربون لأسباب تكنولوجية أو تمويلية، أو اصطدمت خطط التشجير بمتطلبات الأمن المائي، فهل يكون ممكناً ابتداع "خطة ب" بديلة في اللحظة الأخيرة؟
كيف انعكست هذه المواقف على مفاوضات المناخ في قمتها التاسعة والعشرين نهاية العام الماضي؟ تراجعت "قمة باكو" عن التزام "قمة دبي" "التحوُّل بعيداً عن الوقود الأحفوري"، ولم يشفع بالنص اشتراطه أن يكون التحوُّل "على نحو سريع وعادل ومتوازن". أما الدول الغنية، التي كان منتظراً أن تغطي التمويل المطلوب لتمكين الدول النامية من مواجهة التغيُّر المناخي، فاعتمدت المماطلة حتى الساعات الأخيرة من المؤتمر للإعلان عن حجم مساهمتها، المقتصرة على 300 مليار دولار، وهو ربع المبلغ المطلوب، الذي يتجاوز 1200 مليار دولار سنوياً. والحجة أن الباقي يتم تأمينه من القطاع الخاص، على شكل قروض واستثمارات تجارية. وهذا يعني تحميل الدول النامية أعباء إضافية.
وتكرّر السيناريو نفسه في قمة البلاستيك التي عُقِدت في كوريا الجنوبية نهاية العام، حيث أخفقت في الاتفاق على برنامج زمني للحدّ سريعاً من إنتاج المواد البلاستيكية الجديدة، كما كان متوقَّعاً، نتيجة اعتراض مجموعة من الدول اعتبرت أنه يمنعها من استثمار مواردها الطبيعية المستخدمة في صناعة البلاستيك، ويحدّ من التنمية في دول أخرى تعتمد على منتجاته في اقتصادها. لكن المفارقة أن بعض أبرز الدول الغنية المطالبة بالحدّ من البلاستيك ما برحت حتى اليوم من أكبر مستخدمي منتجاته الملوّثة.
هل نحن أمام طريق مسدود؟ الجواب لا، إذ إن الوعي المناخي والبيئي يزداد، وما نشهده هو بالفعل عملية شدّ حبال لتحديد كيفية توزيع الأعباء وتحديد من يدفع الثمن الأكبر. ومن أبرز الإيجابيات التي انتهى إليها عام 2024 وصول العدالة المناخية إلى أعلى سلطة قانونية دولية، إذ قبلت محكمة العدل الدولية، للمرة الأولى، النظر في دعوى قدمتها دول متضررة من آثار التغيُّر المناخي مع مجموعات من الناشطين البيئيين، ضد المتسببين بالانبعاثات من دول صناعية وشركات. ومهما كانت النتيجة، فهي مؤشر إلى أنه لن يكون سهلاً بعد اليوم الهروب من الجرائم البيئية، كما من الجرائم الإنسانية.
في المحصلة، يبقى الوصول إلى نتائج حاسمة في التصدي للتغيُّر المناخي ورعاية البيئة واستدامة الموارد الطبيعية رهناً بوضع نوعية الحياة في مرتبة أعلى من أرقام النمو في الناتج الاقتصادي والدخل القومي، واعتبار مفهوم "التقدُّم" البشري (progress) هدفاً أسمى من النمو الاقتصادي (growth). ولا بد من الاعتراف بأن تأمين حق البقاء والعيش الكريم والتقدُّم للدول النامية يتطلب وقف الاستنزاف غير المحدود للموارد الطبيعية في الدول الغنية، ما يستلزم الحد من البذخ والهدر والقبول بمستويات أقل من الرفاهية.
* نجيب صعب، الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)