في 30 آب 2024، أي في خضمّ العدوان الإسرائيلي على لبنان، وقّع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على مبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي أطلقتها المملكة العربية السعودية، واصفًا هذه الخطوة بأنّها أساسية للبنان، ولا سيّما للقرى والبلدات الجنوبية التي تتعرّض لأضرار جسيمة على الصعيدَين البيئي والزراعي. كما شدّد على ضرورة التعاون مع جميع حلفاء لبنان لمعالجة الأضرار البيئية التي لحقت بالبلاد من جرّاء تدمير الأراضي الزراعية والأشجار المثمرة والغابات1. وعلى الرغم من عدم إمكانية تحديد الحجم الكامل للدمار الذي خلّفه العدوان قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، كشف تقرير حديث للبنك الدولي أنّ تكلفة الأضرار التي لحقت بقطاعَي الزراعة والبيئة في لبنان، خلال الفترة الممتدّة بين 8 تشرين الأوّل 2023 (أي بعد يوم واحد فقط من بدء الحرب على غزّة) و27 أيلول 2024، تُقدَّر بـ245 مليون دولار أمريكي، وأنّ قيمة الخسائر الإجمالية تتجاوز 1.3 مليارات دولار أمريكي.2
يتوافق الموقف اللبناني المؤيِّد لمبادرة الشرق الأوسط الأخضر مع سياسة وزارتَي الزراعة والبيئة المتعلّقة بإعادة التأهيل وزيادة رقعة الغطاء النباتي في لبنان3، مع العلم أنّ هذه المبادرة الإقليمية أُطلِقت في آذار 2021، وهي تتماشى مع رؤية السعودية 2030 التي تركّز على تنويع الاقتصاد بهدف التقليل من الاعتماد على النفط، وعلى تعزيز التنمية المستدامة، إذ تهدف إلى زراعة 50 مليار شجرة وإنشاء محميّات مشتركة في منطقة الشرق الأوسط بغية خفض الانبعاثات الكربونية وتعزيز القدرة على التكيُّف مع آثار التغيُّر المناخي4. وقد وصل عدد الدول والمنظّمات الدولية المؤيّدة للمبادرة، حتّى 14 تشرين الأوّل 2024، إلى 29 دولة ومُنظَّمة، من بينها دول من منطقة الشرق الأوسط ومشاركون آخرون من خارجها.5
لم تنضمّ إسرائيل رسميًّا إلى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر نظرًا إلى أنّ حربها المستمرّة على غزّة قد أدّت إلى تعطيل مفاوضات تطبيع العلاقات بينها وبين المملكة. ومع ذلك، فإنّ العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية التي تجمع إسرائيل ببعض الدول العربية المؤيّدة للمبادرة -- تحديدًا مصر والأردن إذ تربطهما معاهدات سلام مع إسرائيل، بالإضافة إلى الدول الموقِّعة على الاتّفاقيات الإبراهيمية عام 2020 (البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتّحدة) -- تثير تساؤلات حول التعاون البيئي في المنطقة في ظلّ الحروب والصراعات الإقليمية. تسلّط هذه المقالة الضوء على الديناميات الحالية للتعاون البيئي بين إسرائيل والدول العربية، حيث تستعرض كيفيّة استغلال إسرائيل الخطابَ البيئي وقضايا التغيُّر المناخي لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة، في حين أنّها لا تتوانى عن إلحاق الضرر ببيئة دول الجوار وتسعى إلى السيطرة على أراضيها ومصادر المياه فيها. بناءً على ذلك، تدعو المقالة إلى تجريم قادة الحرب الإسرائيلين ومحاسبتهم على «الإبادة البيئية» التي ارتكبوها في لبنان وغزّة.
التعاون البيئي بين إسرائيل والدول العربية المجاورة
يتّخذ التعاون البيئي بين إسرائيل والدول العربية أشكالًا وطرقًا عديدة، وقد يكون مباشرًا أو غير مباشر من خلال مُنظَّمات خارجية أو أُطُر دولية. فعلى المستوى السياساتي، أيّدت إسرائيل والدول العربية - ومن بينها دول في حالة نزاع مع إسرائيل - العديد من الاتّفاقيات البيئية الإقليمية التي تهدف إلى تعزيز التعاون مُتعدِّد الأطراف لمواجهة التحدّيات المشتركة. وتشمل هذه الاتّفاقياتُ اتّفاقياتٍ طويلة الأمد، مثل خطّة عمل البحر الأبيض المتوسّط التي وُضعت عام 1975، واتّفاقية برشلونة لحماية البحر الأبيض المتوسّط من التلوّث التي اعتُمدت عام 1976، والاتّحاد من أجل المتوسّط الذي تأسّس عام 2008. كما تشارك إسرائيل والدول العربية في منابر وفعاليات بيئية إقليمية عدّة، منها منتدى غاز شرق المتوسّط الذي أطلقته مصر عام 2018 لدعم التعاون في قطاع الغاز، ومن المحتمل أن يتوسّع ليشمل مجال الطاقة المتجدّدة أيضًا6، ومبادرة تغيُّر المناخ لشرق المتوسّط والشرق الأوسط التي أطلقتها حكومة قبرص عام 2019 7، وأسبوع المناخ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي عُقد للمرّة الأولى في الإمارات العربية المتّحدة عام 2022 تحت رعاية الأمم المتّحدة.8
مهّدت الاتّفاقيات الإبراهيمية، بشكل ملحوظ، الطريقَ لإجراء مناقشات مباشرة حول القضايا البيئية المشتركة بين إسرائيل والدول العربية المطبِّعة معها، علمًا أنّ هذه المناقشات قد بدأت في منتدى النقب الذي أسّسه، في آذار 2022، وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد لتعزيز التعاون في قضايا عدّة، مثل الأمن والتغيُّر المناخي والصحّة والطاقة والمياه.9 في الواقع، يُعَدّ التعاون البيئي مع المغرب والإمارات العربية المتّحدة الأكثر نجاحًا مقارنةً بدول أخرى، نظرًا إلى ضآلة المعارضة الشعبية للعلاقات مع إسرائيل في هاتَين الدولتَين. على عكس ذلك، تواجه مساعي التعاون البيئي مع مصر والأردن والبحرين تحدّيات كبرى بسبب استمرار المعارضة الشعبية القويّة لإسرائيل، على الرغم من العلاقات الرسمية التي تربطها بها على الصعيدَين الدبلوماسي والاقتصادي10. ومن الجدير بالذكر أنّ إسرائيل والمغرب وقَّعَتا، في كانون الأوّل 2020، مذكّرة تفاهم تركّز على التعاون الفنّي بين البلدَين في مجال إدارة المياه. كذلك، وقّعت إسرائيل والأردن والإمارات العربية المتّحدة، في تشرين الأوّل 2020، مذكّرة تفاهم بشأن مقايضة المياه بالطاقة؛ وتشمل هذه الاتّفاقية إنتاج الطاقة الشمسية في الأردن، وتحلية المياه في إسرائيل، ودعمًا من الإمارات. بموازاة ذلك، يركّز التعاون بين مصر والأردن، بشكل أساسي، على قطاع الغاز الطبيعي، حيث تصدّر إسرائيل الغاز الطبيعي إلى كلا البلدَين، بالإضافة إلى تزويد أوروبّا به بعد تسييله في مصر.
تمثِّل التحدّيات البيئية وقضايا التغيُّر المناخي فرصةً لإسرائيل كي تعزّز روابطها مع الدول العربية التي تجمعها بها علاقات دبلوماسية، وكذلك مع الدول التي لا تربطها بها أيّ علاقات، ولا سيّما دول الخليج، ومنها المملكة العربية السعودية وقطر وعُمان.11 فعلى سبيل المثال، وبالرغم من أنّ المملكة السعودية لم تطبّع علاقاتها مع إسرائيل، يُعَدّ إعلان مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبّا عام 2023 -- الذي يمرّ عبر إسرائيل والأردن والمملكة والإمارات -- ممهِّدًا لطريقِ التعاون البيئي المستقبلي بين الدول المشارِكة، ولا سيّما في قطاع الطاقة المتجدّدة12. من جهة أخرى، يشير الاعتراف المتزايد بأهمِّية التعاون المشترَك في مواجهة التحدّيات الإقليمية، إلى جانب المصالح الاقتصادية للقطاع الخاص الإسرائيلي في دول الخليج، إلى وجود إمكانية كبيرة لإضفاء طابع رسمي على المحادثات التي أُجريت، حتّى يومه، في المنتديات الدولية، كما لتوسيع نطاقها.13
تعيق الصراعات السياسية والجيوسياسية وتحدّيات الحَوكَمَة الداخلية إمكانية التعاون البيئي غير المباشر بين إسرائيل والدول العربية المجاورة لها، وبخاصّةٍ لبنان وفلسطين، نظرًا إلى النزاع الدائر حاليًّا بينهما وبينها. وعلى الرغم من ذلك، يرى الخبراء الإسرائيليون أنّ مثل هذا التعاون قد يشكّل فرصة «لتعزيز الاستقرار في المنطقة، والحفاظ على علاقات السلام والتطبيع القائمة وتوسيع نطاقها لتشمل دولًا أخرى، وتعزيز الرخاء والتنمية الاقتصادية14». ولكن، بما أنّ اسرائيل لا تتمتّع بالموارد المالية الكافية لمواجهة التحدّيات البيئية والمناخية، يعوّل مسؤولوها على المجتمع الدولي، وبخاصّةٍ الولايات المتّحدة وأوروبّا، لتأمين التمويل اللازم، كما يعتبرون الدعم الدولي ضروريًّا لخلق مصالح مشتركة تتمثّل في خفض التصعيد ودعم التعاون في المنطقة، وتحديدًا في ما يتعلّق ببناء الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين15.
إعادة النظر في مباحثات التعاون البيئي في ظلّ الحروب القائمة
لا شكّ في أنّ الحروب والصراعات الإقليمية الحالية تثير شكوكًا قويّة حول فعاليّة التعاون البيئي بوصفه وسيلة ممكنة لتعزيز الاستقرار والسلام والازدهار الاقتصادي في المنطقة، لا سيّما أنّ العمليّات العسكرية الإسرائيلية في غزّة ولبنان، التي تحظى بدعم تمويلي من الولايات المتّحدة ودول أوروبّية عدّة، تعيق فرص التعاون الإقليمي، وإن كان تعاونًا غير مباشر. في ما يلي ثلاثة منطلقات تهدف إلى فتح آفاق جديدة للمناقشات التحليلية وتعميق البحث في هذا الموضوع.
1. استغلال إسرائيل الخطابَ البيئي وقضايا التغيُّر المناخي للسيطرة على المنطقة
تستغلّ إسرائيل الجهود المناخية والخطاب البيئي لفرض نفسها كقوّة رائدة في المنطقة، حيث تعمل على مواءمة الاحتياجات البيئية والمناخية لدول الجوار مع نقاط قوّتها الخاصّة لتعزيز دورها في المبادرات الإقليمية. تأسّس منتدى المناخ الإسرائيلي في تشرين الأوّل 2021 بهدف «وضع إسرائيل في مقدّمة المباحثات العالمية حول أزمة المناخ»، وتعزيز التعاون بين الوزارات، وكذلك التعاون الإقليمي والدولي في مواجهة هذا التحدّي16. استفادت إسرائيل من منتدى النقب ومؤتمر أطراف اتّفاقية الأمم المتّحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ الذي عُقد في الشرق الأوسط (بدورته السابعة والعشرين [كوب27] في مصر عام 2022، وبدورته الثامنة والعشرين [كوب 28] في الإمارات العربية المتّحدة عام 2023) كمنصّتَين إقليميّتَين ودوليّتَين للترويج لنفسها باعتبارها رائدة في مجال التكيُّف مع التغيُّر المناخي في المنطقة، وذلك تماشيًا مع رؤية «الشرق الأوسط المتجدّد» التي قدّمها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مؤتمر كوب 27 17.
تسعى إسرائيل، من خلال ترسيخ مكانتها بوصفها جهة أساسية فاعلة في القضايا المناخية والبيئية، إلى المشاركة بقوّة في المناقشات المتعلّقة بمستقبل الموارد الطبيعية في المنطقة، هذا إن لم تكن تطمح إلى قيادة هذه المناقشات18، كما أنّها تحاول زيادة حصّتها في التمويل المناخي وتعزيز مكانتها في سوق تجارة الكربون العالمية19. ونظرًا إلى عدم التكافؤ بين القوى الإقليمية والتقنيّات المتطوّرة التي تمتلكها إسرائيل، فإنّه ليس مُستبعَدًا أن تفرض هذه الأخيرة وحلفاءها أشكالًا جديدة من الاستعمار والسيطرة على الموارد الطبيعية للمنطقة، وذلك تحت ستار رؤية «الشرق الأوسط المتجدّد» أو شعارات المستقبل الأخضر والأمن الغذائي. وتزداد هذه المسألة خطورةً مع قيام الجهات الفاعلة العالمية ومنظّمات التمويل الدولية بإدراج الخطاب البيئي في الأجندات الليبرالية الجديدة التي تسهّل خصخصة الموارد الطبيعية، وتحدّ من قدرة الدول والمجموعات الأقلّ قوّة على اتّخاذ القرارات بشأن إدارة مواردها20، ممّا يؤدّي في النهاية إلى إضعاف استقلاليتها وإخضاعها لنفوذ إسرائيل.
2. تدمير إسرائيل للطبيعة والبيئة في حين أنّها تروّج للتعاون البيئي
يتعارض الخطاب الإسرائيلي حول إمكانيّة إقامة تعاون بيئي مع دول الجوار في ظلّ سياسة «الأرض المحروقة» التي انتهجتها في حروبها على غزّة ولبنان خلال العام الماضي. ويؤكّد العديد من العلماء والمحلِّلين أنّ إسرائيل تشنّ حربًا ضدّ البيئة في غزّة، ويذهب بعضهم إلى حدّ القول إنّ ارتكاباتها تشكّل أكبر حالة تدمير بيئي، أو «إبادة بيئية»، في التاريخ الحديث.21 وعلى الرغم من أنّ الإبادة البيئية تنطوي على «أشكال أخرى من العنف قد لا تكون مباشرة أو فورية» مقارنةً بالهجمات العسكرية22، فإنّها تُعَدّ جريمة حرب لها تداعيات بعيدة المدى على النظم البيئية والمجتمعات والأجيال القادمة.23 ومن جهة أخرى، يفاقم تدمير إسرائيل للبيئة في غزّة الأزمةَ البيئية والمناخية العالمية؛ فقد كشفت دراسة نُشرت مؤخّرًا أنّ إجمالي الانبعاثات الكربونية الناتجة من الأنشطة العسكرية المباشرة في غزّة خلال الفترة الممتدّة من تشرين الأوّل 2023 إلى شباط 2024 تُقدَّر بين 420,265 و652,552 طنًّا، وهو ما يفوق إجمالي الانبعاثات السنوية لـ26 دولة على الأقلّ.24
يُعَدّ حجم الدمار البيئي الذي ألحقته إسرائيل بلبنان جسيمًا أيضًا، إذ دمّرت نحو 1,879 هكتارًا من الأراضي الزراعية الخصبة، وأكثر من 47,000 شجرة زيتون، ونحو 1,200 هكتار من غابات البلّوط خلال الفترة الممتدّة بين 8 تشرين الأوّل 2023 و12 أيلول 2024، في محافظات الجنوب وحدها.25 كما تسبّبت العمليّات العسكرية الإسرائيلية في اندلاع حرائق مُدمِّرة في المحميّات الطبيعية والمناطق الحسّاسة بيئيًّا26، واستهدفت هذه الهجمات الطريق الرئيسي لإمدادات المياه ونظام الريّ في جنوب لبنان.27 علاوة على ذلك، ألحق استخدام إسرائيل الفوسفور الأبيض والقنابل الحارقة ضررًا بالمراعي والأراضي الزراعية، ودمّر الثروة الحيوانية، ولوّث مياه الريّ والتربة، ما تسبّب في أضرار جسيمة بالقطاع الزراعي. والأخطر من ذلك أنّ تسرُّب الفوسفور الأبيض إلى المياه الجوفية يمثّل ضررًا بيئيًّا كبيرًا يمكن أن يهدّد النظم البيئية والأمن الغذائي، ويؤثّر على صحّة الإنسان، ويقوّض الاقتصاد المحلّي.28 زدْ على ذلك أنّ تدمير إسرائيل قرًى لبنانية كاملة تقع بالقرب من الفوالق الزلزالية النشِطة يزيد من خطر الزلازل الناجمة عن أنشطة بشرية.29
3. سَعي إسرائيل إلى الاستيلاء على الأراضي والمياه
إنّ العمليّات العسكرية الوحشية التي تشنّها إسرائيل في لبنان وغزّة مدفوعة بهدفها الأيديولوجي المتمثّل في إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وفي مصلحتها الاقتصادية القائمة على السيطرة على أراضي الدول المجاورة وموارد المياه فيها30. وقد بدأ الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي لفلسطين بطرد الفلسطينيين من أرضهم، تلته ممارسات هدفت إلى تجريدهم من إنسانيتهم؛ ذلك أنّ الفلسطينيين في غزّة والضفّة الغربية محاصرون في مناطق معزولة مُحاطة بجدران فاصلة وأسلاك شائكة وحواجز تفتيش. بموازاة ذلك، تواصل إسرائيل استخدام قوانينها لـ«إضفاء الشرعية» على المستوطنات القائمة التي تُعَدّ غير قانونية بموجب القانون الدولي، وتخطّط لتخصيص أراضٍ كي تقيم مستوطنات جديدة تتعدّى على الأراضي الفلسطينية وتقوّض التراث الثقافي الفلسطيني، وهي إجراءات أدانتها الأمم المتّحدة معتبرةً أنّها مُقلِقة وتشكّل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي.31
قدّم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة في نيويورك في 22 أيلول 2023، خريطة «للشرق الأوسط الجديد» لا تتضمّن فلسطين، في إشارة ضمنيّة إلى أنّها جزء من إسرائيل.32 كما اعتادت إسرائيل إدراج أراضٍ تابعة للبنان وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية والأردن ومصر، وجزء صغير من تركيا، ضمن خرائط إسرائيل الكبرى، ما يعكس الاعتقاد الصهيوني القومي المتطرّف بمُلكيّة هذه الأراضي .33 وفضلًا عن ذلك، فإنّ لإسرائيل مطامع في مياه الدول العربية المجاورة لها؛ فهي تتحكّم في مصادر المياه في الضفّة الغربية وغزة، كما أنّها نجحت في السيطرة على بعض المصادر الرئيسية للمياه في الأردن وسوريا (الحوض العُلوي لنهر الأردن وحوض نهر اليرموك)34، مع العلم أنّها تعتبر مصادر المياه في جنوب لبنان ضرورية لاستدامة الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة في مناطقها الشمالية. وتُعَدّ مطامعها في مياه نهر الليطاني، أطول أنهار لبنان، مشكلة قديمة العهد35، ممّا حدا بها، على مرّ التاريخ، إلى عرقلة المشاريع التي تهدف إلى مساعدة لبنان على الاستفادة من هذا النهر.36 في السياق نفسه، أفادت تقارير أنّ إسرائيل قد سحبت مياهًا من نهرَي الوزّاني والحاصباني وحوّلتها إلى إسرائيل، على الرغم من الاعتراضات اللبنانية.37
دعوة إلى تجريم الإبادة البيئية
في الحقيقة، إنّ «إسرائيل لا تخوض حربًا للدفاع عن نفسها، بل تحارب للاستيلاء على مزيد من الأراضي من أجل تعزيز آليّات الفصل العنصري وتشديد سيطرتها على الشعب الفلسطيني والمنطقة».38 والجدير ذكره أنّ خطّتها الممُنهَجة للاستيلاء على الأراضي والمياه، والأفعال المُتعمَّدة التي ترتكبها لتدمير البيئة، وسياسات الأرض المحروقة التي تنتهجها لا تقوّض حقوق وسبل عيش السكّان المحليّين فحسب، بل تزيد أيضًا الأضرار البيئية وتدمّر كلّ مقوّمات الحياة للأجيال القادمة. وفي ظلّ هذه الانتهاكات، من المُستبعَد أن يشكّل التعاون البيئي عبر الحدود بين إسرائيل والدول العربية مسارًا مُجدِيًا نحو السلام في الشرق الأوسط.
في 21 تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب في غزّة39. وجاء قرار المحكمة الجنائية الدولية بعد عدّة خطوات، تمثّل آخرها في إحالة بشأن الوضع في فلسطين قدّمتها جنوب إفريقيا وستّ دول أخرى إلى مكتب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية40. على صعيدٍ آخر، وجّه خبراء تابعون للأمم المتّحدة ومُمثِّلون عن الحكومات والمجتمع المدني اتّهامًا لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، ودعوا الأمم المتّحدة إلى النظر في تعليق عضويّتها بها، مؤكّدين أهمِّيّة تسمية «الإبادة الجماعية باسمها الحقيقي»41. والجدير بالذكر أنّ الإبادة الجماعية باتت تُعَدّ جريمة بموجب القانون الجنائي الدولي منذ عام 1951.
وعلى نَحوٍ مماثل، من المهمّ النظر إلى الجرائم البيئية التي ترتكبها إسرائيل في لبنان وغزّة على أنّها إبادة بيئية. لقد كان أستاذ علم الأحياء آرثر و. غالستون أوّل من طرح مفهوم الإبادة البيئية في سبعينيّات القرن العشرين، وذلك احتجاجًا على استخدام الجيش الأمريكي مبيداتِ الأعشاب والموادّ الكيميائية لتدمير النباتات والمحاصيل أثناء حرب فيتنام. ومنذ ذلك الحين، حَظِيَ مفهوم الإبادة البيئية بدعم العديد من منظَّمات المجتمع المدني والخبراء القانونيين الذين يدعون إلى تجريمه. صحيحٌ أنّه يمكن القول إنّ الحروب، بحكم طبيعتها، تُلحِق الضرر بالبيئة المبنيَّة والبيئة الطبيعية على حدّ سواء، إلّا أنّ هذا لا يمكن أن يبرّر الاستهداف المُتعمَّد للأصول الطبيعية، والمعالم الثقافية، والمواقع الطبيعية المحميَّة.42 تحظّر القوانين الإنسانية الدولية مثل هذه الممارسات، وبخاصَّةٍ بموجب المادّتَين 35(3) و55 من البروتوكول الإضافي الأوّل لعام 1977 المُلحَق باتِّفاقيات جنيف لعام 1949 43. كذلك، يقرّ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي اعتُمِد في 17 تمّوز 1998، أنّ التدمير المُتعمَّد للبيئة أثناء الحرب والذي يتسبّب في «ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية» يمثّل جريمة حرب بموجب المادّة 8 (2)(ب)(رابعًا).44
يعترف الخبراء القانونيّون بوجود ثغرات في القانون الجنائي الدولي، لكنّهم يرون أنّه لا يزال يشكّل الإطار المناسب لمقاضاة مُرتكِبي الجرائم البيئية. وتهدف الجهود المناصِرة لهذا المسعى إلى إدراج الإبادة البيئية، أو الجرائم ضدّ البيئة الطبيعية، كـ«جريمة خامسة» ضمن أحكام القانون الجنائي الدولي، إلى جانب الجرائم الدولية «الأساسية» الأربع: الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان. ويعمل الداعون إلى تجريم الإبادة البيئية أيضًا على توسيع نطاق المساءلة القانونية عن الأضرار البيئية، ليشمل محاسبة الأفراد والمؤسَّسات على أفعالها في زمن الحرب والسلم على حدٍّ سواء. وقد أُحرز تقدُّم كبير في هذا الصدد، حيث اقترحت دول جزر المحيط الهادئ مؤخَّرًا الاعتراف بالإبادة البيئية كجريمة دولية أمام المحكمة الجنائية الدولية .45
يشكّل الاستمرار في الدعوة إلى إدراج الإبادة البيئية كجريمة بحدّ ذاتها في القانون الجنائي الدولي أمرًا ملحًّا، لا سيّما في ضوء الأضرار البيئية الجسيمة التي تسبّبت فيها العمليّات العسكرية الإسرائيلية في لبنان وغزّة. وإذا لم تُتَّخَذ إجراءات عقابية إزاء جرائم إسرائيل، فإنّ جهود التعاون البيئي في المنطقة -- بما في ذلك «مبادرة الشرق الأوسط الأخضر» التي أطلقتها السعودية، والتي يؤيّدها لبنان وفلسطين -- لن تؤدّي على الأرجح إلّا إلى ترسيخ الاختلال القائم في موازين القوى وتفاقُم الممارسات الاجتماعية والبيئية الجائرة. بالتالي، فإنّ التدهور البيئي ودمار الموائل الطبيعية اللذَين يُدرَجان في الوقت الحالي ضمن تَبِعات الجرائم البيئية التي ارتكبتها إسرائيل، قد يصبحان أيضًا محرّكَين للصراعات المستقبلية في ظلّ مواجهة المجتمعات المتضرِّرة عواقبَ تلوُّث الموارد الطبيعية واستخراجها ونضوبها، وسواها من الآثار المتتالية للأضرار البيئية التي لا رادعَ لها. وقد تؤدّي الانتهاكات البيئية المُرتكَبة بعد انتهاء الحرب، والمُموَّهة تحت ستار جهود إعادة الإعمار وبناء السلام والوعود بمستقبل مرِن ومُستدام، إلى تفاقم الأزمات البيئية والإنسانية على حدّ سواء. لذلك، فإنّ إيجاد الآليّات القانونية المناسبة لمحاسبة مُرتكِبي الجرائم البيئية، سواء في أثناء الحرب أو بعدها، أمرٌ بالغ الأهمِّيّة.