تحتضن الأمم المتحدة في مقرها في نيويورك يومي 22 و23 أيلول (سبتمبر) الجاري "قمة المستقبل"، بوصفها "مؤتمر القمة المعني بالمستقبل". ومن المؤمل أن تكون حدثاً عالمياً محورياً رفيع المستوى، يجتمع فيها قادة العالم للتوصُّل إلى توافق دولي جديد في الآراء بشأن كيفية تحقيق حاضر أفضل بشكل يكفل حماية المستقبل، إلى جانب حماية الحاضر، في وقت يلمس العالم فيه الحاجة المتزايدة إلى التعاون الدولي الفعّال لبقائنا على قيد الحياة. لكن تحقيق ذلك صعب في أجواء تنعدم فيها الثقة، وتُستخدم فيها هياكل عفا عليها الزمن لم تعد تعكس الواقع السياسي والاقتصادي الراهن.
في هذا السياق، تُعتبر "قمة المستقبل" فرصة هامة لترميم ما تآكل من الثقة، وإثبات فعالية التعاون الدولي في تحقيق الأهداف المتفق عليها والتصدي للتهديدات والتحديات والفرص الناشئة. كما أنها تعتبر فرصة نادرة في كل جيل لإعادة تحديد مسار المستقبل لصالح البشرية جمعاء. وتأتي القمة تنفيذاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 76/3007 عام 2022، الذي هو ثمرة نقاشات بدأت منذ عام 2020 بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الأمم المتحدة، والتي أطلقت طروحات جادة وتخوّفات موضوعية بشأن مستقبل التعاون الدولي وتحدياته. وقد تبلورت فكرة القمة خلال جائحة كوفيد-19، حين ظهرت فجوة بين تطلعات الأمم المتحدة وواقع العالم المتغيّر بسرعة.
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد كلّفت الأمين العام أنطونيو غوتيريش بوضع رؤية لمستقبل التعاون العالمي. وإستجابة لهذه الدعوة قدم "خطتنا المشتركة"، وهو تقرير تاريخي يتضمن توصيات بشأن التعاون العالمي المتجدد لمعالجة مجموعة من المخاطر والتهديدات، واقترح فيه عقد قمة استشرافية بشأن المستقبل عام 2024. وقال غوتيريش إن المقترحات والأفكار الواردة في رؤيته لمستقبل التعاون العالمي، والمعروفة بإسم "خطتنا المشتركة"، تمثّل "جسوراً عبر فجوة التطلعات: بين العالم كما هو، والعالم كما نعرف أنه يمكن أن يكون".
ويسبق القمة يومان من التحضيرات والمناقشات العامة ضمن الأسبوع الرفيع المستوى المخصص للجمعية العامة. ويشارك فيها، إلى جانب ممثّلي الدول الأعضاء، ممثّلون عن المجتمع المدني، والقطاع الخاص، والأوساط الأكاديمية، والسلُطات المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى الشباب.
ستتيح التحضيرات للأطراف المعنية كافة فرصة للمشاركة في النقاشات المهمة وتبادل الأفكار حول القضايا الرئيسية. وأوضحت مديرة السياسات في القمة، ميشيل غريفين، أنه: "على الرغم من أن الحكومات هي اللاعب الرئيس، إلا إن مشاركة ممثّلي المجتمع المدني والشباب والقطاع الخاص، ضرورية جداً لضمان شمولية القمة ونجاحها". وأضافت: "إن العنصر الأكثر أهمية في التعاون الدولي هو الثقة. الثقة في بعضنا البعض. والشعور بإنسانيتنا المشتركة وترابطنا". كما أكدت أن "القمة مصممة لتذكيرنا جميعاً، ليس فقط الحكومات ولا الأشخاص فحسب الذين سيحضرون إلى الأمم المتحدة في نيويورك، بل الجميع، بأننا يجب أن نعمل معاً لحل أكبر مشاكلنا المشتركة".
إلى هذا، تطمح الأمم المتحدة والحكومات الحريصة على مستقبل شعوبها والحفاظ على السِلم والأمن الدوليين، أن تمثّل قمة المستقبل فرصة استراتيجية لإعادة النظر في كيفية إدارة التحديات العالمية ومواجهة الأزمات الراهنة، وذلك من خلال التعاون الدولي والتزام الدول المختلفة بميثاق دولي يُقرّ بالإجماع. وتأمل أيضاً بتحقيق نتائج ملموسة تدفع العالم نحو مستقبل أكثر استدامة وعدلاً.
من هذا المنطلق، أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022 أن يعتمد" مؤتمر القمة المعني بالمستقبل وثيقة ختامية موجزة وذات بُعد عملي، بعنوان: "ميثاق من أجل المستقبل"، يُتفق عليه مسبقاً من خلال مفاوضات حكومية أولية، وأن تشمل الوثيقة الختامية مقدمة وخمسة فصول:
الفصل الأول- التنمية المستدامة وتمويل التنمية
الفصل الثاني- السلام والأمن الدوليان
الفصل الثالث- العِلم والتكنولوجيا والإبتكار والتعاون الرقمي
الفصل الرابع- الشباب والأجيال المقبلة
الفصل الخامس- إحداث تحوُّل في الحوكمة العالمية
وأوصت أن يؤخذ في الإعتبار في الفصول ذات الصلة من الميثاق خطة التنمية المستدامة لسنة 2030 والتعهد الوارد فيها بأن لا يترك أحد خلف الركب، والإلتزام بالقضاء على الفقر والجوع في كل مكان، ومكافحة أوجه عدم المسؤولية داخل البلدان وفي ما بينها، وإقامة مجتمعات مسالمة وعادلة لا يُهمّش فيها أحد، وضمان الحماية الدائمة لكوكب الأرض وموارد الطبيعة، وتهيئة الظروف المؤاتية للنمو الأقتصادي المستدام الذي يشمل الجميع، ولبلوغ الإزدهار العميم وتوفير فرص العمل اللائق للجميع، مع مراعاة مستويات التنمية والقدرات على الصعيد الوطني، وكذلك إعمال حقوق الإنسان الواجبة للناس كافة، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين جميع النساء والفتيات.
المطروح على "قمة المستقبل" المرتقبة أن تشتمل نتائجها المباشرة: صدور النسخة النهائية من "الميثاق من أجل المستقبل"، وميثاق رقمي عالمي، وإعلان بشأن الأجيال القادمة. ومن المؤمل أن تعتمدها الدول الأعضاء جميعاً خلال القمة.
وتأمل قيادة الأمم المتحدة أن تبدأ مع نهاية القمة مرحلة تنفيذ القرارات التي ستصدر عنها، وتلك ذات العلاقة بقرارات مؤتمرات دولية أخرى. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل ستستضيف أذربيجان مؤتمر الأمم المتحدة التاسع والعشرين للمناخ (COP29)، حيث سيتم التركيز على تمويل العمل المناخي. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2024، سينعقد مؤتمر الأمم المتحدة حول البلدان النامية غير الساحلية في بوتسوانا، لمناقشة حلول التنمية المستدامة. وفي حزيران (يونيو) 2025 سينعقد في إسبانيا مؤتمر التمويل الدولي الرابع لتمويل التنمية، الذي سيركز على إصلاح الهيكل المالي الدولي، بما في ذلك هيئات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي تقرر كيف، وتحت أي شروط، تقدم القروض والمنح والمساعدة الفنية للدول النامية، بتوجيه طموح لمعالجة التحديات المالية "في سياق الحاجة الملحة لتسريع تنفيذ خطة العمل 2030 وتحقيق أهداف التنمية المستدامة ودعم إصلاح الهيكل المالي الدولي".
ولابد من تسريع الجهود للوفاء بالإلتزامات الدولية القائمة التي سيتضمنها الميثاق واتخاذ تدابير عملية للاستجابة لما ينشأ من تحديات واستغلال ما يُتاح من فرص. والنتيجة المتوخاة هي إيجاد عالم أكثر استعداداً للتعامل مع التحديات التي نواجهها حالياً وتلك التي سنواجهها في المستقبل، تحقيقاً لصالح البشرية جمعاء وصالح الأجيال المقبلة.
ويأمل الأمين العام للأمم المتحدة أن تسمح "قمة المستقبل" للأمم المتحدة بالوفاء بوعدها الذي قطعته في "ميثاق الأمم المتحدة" لإنقاذ الأجيال المقبلة، ليس فقط من ويلات الحرب، وإنما أيضاً من التهديدات الآنية العديدة التي تهدد بقاءها على قيد الحياة.
الدكتور كاظم المقدادي، طبيب وأكاديمي عراقي متقاعد مقيم في السويد