أوشك فصل الخريف على الانقضاء، وحزم الخبراء امتعتهم، بعد ثلاثة شهور قضوها في مراقبة مسارات الطيور المهاجرة في منطقة خليج السويس في مصر على ساحل البحر الأحمر، المعروفة بارتفاع سرعات الرياح فيها، التي تتجاوز 10 أمتار في الثانية، مما جعلها قبلة لاستثمارات طاقة الرياح.
أدى ارتفاع جاذبية الاستثمار في الطاقة المتجددة إلى شغل أكثر من 1200 كيلومتر مربع بقدرات تتجاوز 4000 ميغاواط، تتوزع بين 1500 ميغاواط قيد التشغيل و1000 ميغاواط تحت الإنشاء، والباقي في مرحلة التطوير.
في المقابل، تُعدّ المنطقة أحد أعلى ممرات عبور الطيور المهاجرة كثافةً -أكثر من مليون ونصف المليون طائر- خلال موسِمي الخريف والربيع، وتتتوجه منها إلى أرجاء القارة الإفريقية.
عبور أسراب متنوعة الكثافة والارتفاع يعرّضها لمخاطر الاصطدام بشفرات توربينات الرياح. ومن أجل تحقيق التوازن البيئي وإنتاج كهرباء خالية من الكربون بأسعار تنافسية، ثُبتَ جهازا رادار، أحدهما في مدخل الموقع لأغراض الرصد المبكر لارتفاعات الطيور واتجاهاتها، بينما تقع مسؤولية تحديد أنواعها على المتخصصين المزودين بنظارات معظمة والموزعين داخل الموقع.
يتفاوت إيقاف التوربينات الواقعة في مسار العبور، ثم إعادة تشغيلها، من عدة دقائق إلى بضع ساعات.
يضعنا تأمل حياة الطيور، مثل غيرها من الكائنات، عاجزين أمام طلاقة قدرة الخالق العظيم. وهي تهاجر من موائلها في أوروبا وأميركا الشمالية مع قدوم الخريف لتجنُّب صقيع الشتاء القارس، إلى دفء القارة الأفريقية، عبر مسارات ثلاث: مضيق جبل طارق غرباً، إيطاليا-تونس شمالاً، وأخيراً عبر الصدع الأعظم على البحر الأحمر.
لكل نوع سلوكه الخاص، حيث تتجه أسراب اللقلق الأبيض والإوز العراقي والصقور والبجع وغيرها، من شمال الكرة الأرضية صوب تركيا ومنها عبر مضيق البوسفور إلى قارة آسيا بمحاذاة ساحل البحر المتوسط، سورية ولبنان والأردن، وصولاً إلى ساحل البحر الأحمر في السعودية، عبوراً إلى خليج السويس في مصر.
تتخلل الرحلة فترات استراحة في مناطق ثابتة تتناول الطيور خلالها أكبر قدر من البروتينات للحصول على طاقة تمكّنها من متابعة رحلتها، وصولاً إلى موائل الهجرة، حيث تستقر وتتكاثر، وما أن يحل الربيع حتى تشرّع أجنحتها عائدة مع صغارها إلى موائلها الأصلية، أو أوطانها، تبعاً لبصمة جينية تتوارثها الطيور جيلاً بعد جيل.
تسجّل الفراخ الصغيرة خلال الرحلة مسارات الهجرة وتتعلم أبجديات الانتماء وحب وطن رسمه الخيال قبل الواقع، وطن سيشهد فرحة أول عش، وأول بيضة، وأول فرخ، والوطن دائماً عزيز.
الالتزام باتفاقيات حماية التنوُّع البيولوجي والحفاظ على الحياة النباتية والحيوانية يدعونا لإعادة التفكير في موجات التهجير القسري، ليس فقط للفلسطينيين، بل والسكان الأصليين في دول أوروبا وأميركا الشمالية، الذين تم التخلص منهم عبر خطط منظمة.
منذ أيام، لفتت صديقة فاضلة انتباهي إلى الفيلم الأميركي "قتلة زهرة القمر"، المقتبس من قصة حقيقية تعرضت فيها قبيلة أوسايج (Osage) في ولاية أوكلاهوما إلى عمليات قتل منظمة على يد الأميركيين البيض بعد اكتشاف النفط فيها.
فارق كبير بين الهجرة والتهجير، الأولى طوعية وتملك معها حق العودة لوطنك في أي وقت تشاء، والثانية قسرية ومحظور فيها العودة. الهجرة استزراع والتهجير اقتلاع. الهجرة رغبة في تجربة جديدة والتهجير سير نحو المجهول.
تهاجر الطيور ولا تهجر وطنها، وتقطع أسماك السلمون آلاف الكيلومترات في رحلة مقدسة من النهر إلى المحيط، وبعد عشرة أيام تكون خلالها قد دفنت بيضها تحت الرمال والحصى، تفارق الحياة. وما أن يفقس البيض ويشتد عود الزريعة حتى تعاود مسار الهجرة إلى موطن الآباء والأجداد، تاركة خلفها ألف علامة استفهام دون إجابة، ويقيناً واحداً عنوانه "حق العودة". حفظ الله الوطن.
الدكتور محمد مصطفي الخياط، الرئيس التنفيذي، هيئة الطاقة المتجددة، مصر