كلّما اقترب موعد القمة المناخية العالمية التي تستضيفها دبي بعد أقل من أربعة شهور، تنشط شركات العلاقات العامة لعرض خدماتها على زبائن من القطاعين الخاص والعام. هذه المحاولات المشروعة لكسب عقود جديدة مع هيئات محلية وعالمية، عن طريق اقتناص فرصة انعقاد القمة في الإمارات، تحتمل أكثر من تفسير واحد. فهدف شركات العلاقات العامة الاضاءة على الوجه المُشرق لعملائها، بترويج إنجازاتهم ومنتجاتهم وأعمالهم، والدفاع عنهم إذا تعرّضوا لحملات ظالمة من منافسين ومعترضين. لكن الخطر يكمن في استخدام العلاقات العامة وسيلةً لنشر الأكاذيب وتغطية الأخطاء ومنع المحاسبة.
لولا حملات شركات العلاقات العامة قبل نحو أربعين عاماً، بتكليف من المنتجين في دول حوض المتوسط، لترويج فوائد زيت الزيتون، لما وصل هذا المنتَج إلى رفوف السوبرماركت وموائد المستهلكين حول العالم، وراج استعماله كبديل صحّي. ولولا حملات العلاقات العامة لما عرف المستهلكون بكثير من الابتكارات الجديدة المفيدة، التي تحتاج أكثر من الإعلانات التجارية. لكن هذه الحملات لم تكن محصورة في ترويج منتجات الشركات التجارية، بل شملت ترويج سياسات الحكومات والمنظمات العامة والخاصة، فضلاً عن الدعاية للأفراد الطامحين إلى مناصب عُليا.
دخول المسؤولية الاجتماعية للشركات ومتطلّبات الالتزام برعاية البيئة والعمل المناخي جزءاً أساسياً في واجبات القطاع الخاص وبنداً ملزماً في البرامج الحكومية، أضاف عنصراً جديداً إلى الخدمات التي تقدّمها شركات العلاقات العامة. ولولا العمل المحترف لهذه الشركات، لما عرف الجمهور، مثلاً، بالالتزامات البيئية والاجتماعية الجدّية لكثير من شركات القطاع الخاص وريادة بعضها في مجالات الطاقة المتجددة والسياحة البيئية وخدمات البنى التحتية المتوافقة مع متطلّبات رعاية البيئة. فترويج أعمال شركة "أكواباور" السعودية الناجحة في مشاريع الطاقة المتجددة حول العالم، وبرامج "شركة أبوظبي لمستقبل الطاقة" (مصدر)، من العوامل التي شجّعت شركات أخرى على التحوُّل إلى استثمارات مستدامة. كما أن الترويج لإصدار حكومات ومصارف تجارية عربية "سندات خضراء" مخصصة لتمويل مشاريع تدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وإطلاق برامج وطنية طموحة مثل "رؤية السعودية 2030"، شجّعا حكومات أخرى على نقل التجربة.
لكن الواقع أن الصورة ليست دائماً ورديّة. ففي حالات كثيرة، ترصد الشركات ميزانيات كبرى لحملات علاقات عامة مخصّصة لستر أخطائها وتبييض صفحاتها السوداء، إذ تقلّل من أضرار انبعاثاتها ومخلّفاتها السامة، وتبالغ في إبراز فوائد منتجاتها ومساهمة عملياتها في خلق وظائف وعوائد مالية مجزية. كما تخلط بين التبرّعات الموضعية لجمعية هنا ومستوصف خيري هناك، وتخصيص ميزانيات ثابتة لدعم برامج الحماية الاجتماعية ورعاية البيئة. وتبلغ بعض حملات العلاقات العامة حدّاً موصوفاً من الوقاحة، بحيث تحاول تصوير الانبعاثات السامّة من أحد المصانع كرحيق عطريّ منعش، وتدمير الطبيعة والموارد لبناء مشروع سياحي أو صناعي أو تجاري، كثمن صغير لا بد من دفعه لتحقيق التنمية وخدمة المجتمع. كما تتجاهل البدائل الممكنة للموازنة بين التنمية ورعاية البيئة ومصالح الناس، وذلك تأميناً لمزيد من الأرباح غير الشرعية للمستثمرين ورُعاتهم. وما يُصرَف على حملات العلاقات العامة للتغطية على الممارسات المدمّرة الشائنة يفوق أضعاف ما يُصرف على حملات الترويج للممارسات الجيّدة، التي تكون حسناتها وفوائدها في معظم الحالات ظاهرة وكافية للإعلان عن نفسها.
"تخضير" الممارسات البيئية والمناخية المدمّرة، كما "تبييض" الأموال، لم يعُد ممارسة سهلة يمكن أن تمرّ بلا حساب. فقد أقرّت دول كثيرة قوانين للحدّ منها، مما سمح للمتضرّرين والمجموعات المدافعة عن البيئة بإقامة دعاوى في المحاكم، في إطار مفهوم العدالة البيئية، ضد المخالفين والمتستّرين عليهم. ويشمل هذا ترويج المعلومات المضلّلة والأخبار الكاذبة. فخلال العامين الماضيين، قدّم المدافعون عن البيئة 53 دعوى في محاكم حول العالم ضد شركات بتهم تتمحور حول "التبييض المناخي"، خاصة إعداد تقارير كاذبة عن الانبعاثات الناجمة عن عملياتها أو عدم الالتزام بالتعهدات البيئية التي تعهدت بها. وفي الأعوام العشرين الأخيرة، تم تقديم نحو 2500 دعوى بتهم مخالفات بيئية، معظمها في الولايات المتحدة. ورفعت مقاطعة أوريغون الأميركية أخيراً دعوى ضد شركات في قطاع الوقود، مطالبةً بما يتجاوز 50 مليار دولار تعويضاً عن مساهمتها بالتسبب في الطقس المتطرّف نتيجةً للتغيُّر المناخي. كما أن جمعية خيرية بريطانية اشترت حصةً في شركة "شل"، لتبرير رفع دعوى ضدها بصفة مساهِم، بتهمة ضعف تدابيرها البيئية وعدم دِقة تقاريرها، مما يشكّل كذباً على المساهمين. وانضمت باريس ونيويورك إلى مجالس بلدية أخرى حول العالم لتقديم دعوى ضد شركة "توتال" للطاقة لعدم إعطاء الاهتمام الكافي في عملياتها للاعتبارات البيئية.
ومهما تكن نتيجة هذه القضايا القانونية، التي قد تستغرق دراستها سنوات طويلة في المحاكم ويسقط معظمها، فالنتيجة الأكيدة أنها أدخلت عنصراً جديداً لمراقبة التزام القطاع الخاص بالاعتبارات البيئية والمناخية. وقد بيّنت دراسة أجرتها أخيراً كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية أن أسهم الشركات التي تتعرض لدعاوى بيئية ومناخية تنخفض نحو نصف في المائة بغض النظر عن النتائج. لكن هذا يضع أيضاً مسؤولية مضاعفة على رافعي الدعاوى بحجج الدفاع عن البيئة، الذين يتوجّب عليهم التحقق من المعلومات قبل إطلاق الاتهامات واللجوء إلى المحاكم.
ولا تقتصر الدعاوى البيئية على شركات القطاع الخاص، بل تصل سهامها إلى الحكومات أيضاً. وكان لافتاً هذه السنة ادعاء مواطنين وهيئات بيئية على أكثر من 30 دولة أمام محكمة حقوق الانسان الأوروبية، على أساس أن "تقاعس الدول عن الاجراءات البيئية والمناخية يمثّل انتهاكاً لحقوقهم الانسانية".
على أبواب القمة المناخية في دبي، نتمنى على القطاعين الخاص والعام استخدام شركات العلاقات العامة لترويج الانجازات والسياسات الصحيحة والنجاحات، وهي كثيرة، لا لتغطية ممارسات سيئة ومدمّرة.
|