نجحت صناعة السيارات الألمانية في فرض تعديل على خطة الاتحاد الأوروبي لمنع بيع السيارات العاملة على محركات الاحتراق الداخلي بحلول سنة 2035، كما عرقل حزب الفلاحين في هولندا خطة الحكومة لتحقيق خفض كبير وسريع في الانبعاثات الضارّة الناجمة عن القطاع الزراعي.
الصراعات السياسية والعسكرية والانهيارات الاقتصادية التي تعصف بالعالم اليوم غطّت على هذين الحدثين. لكن لا بد من ظهور نتائجهما المؤثرة قريباً، مع ما يترتّب عليها من مضاعفات على العمل المناخي. وما لم يبادر المعنيون إلى المعالجة السريعة، فقد تتحوّل أصوات التعطيل إلى كرة ثلج متدحرجة. وعلى صانعي السياسات أن يُدركوا مبكراً أن تجاهل هذه التحرّكات أو التعامل معها بسلبية يهدّد بتأخير برامج العمل المناخي والبيئي عقوداً طويلة، قد يصبح إصلاح التخريب بعدها متعذّراً. فالمطلوب حوار إيجابي مع جميع مكوّنات المجتمع، والاستعداد لتعديل في السياسات كي تصبح أكثر استجابة للوقائع البيئية والاجتماعية والاقتصادية، لأن هذا هو الخيار الأفضل لمحاربة النزعات الشعبوية.
"الصفقة الخضراء" للاتحاد الأوروبي كانت تتضمن وقف تسجيل أيّ سيارات جديدة تصدر عنها انبعاثات كربونية بعد سنة 2035. لكن الحزب الديمقراطي الحرّ، أحد أعضاء الائتلاف الحكومي الحاكم في ألمانيا، هدّد بعرقلة التوقيع النهائي على الخطة قبل الحصول على استثناءات تسمح بتسجيل سيارات الاحتراق الداخلي إلى ما بعد 2035. التسوية التي سمحت بإنجاز الاتفاق اشترطت أن يقتصر الاستثناء على المحركات العاملة بالوقود الاصطناعي (e-fuel)، الذي لم يدخل مرحلة الانتاج التجاري بعد، وهو خليط من ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين. ويقول داعموه إنه حلّ مثالي لمرحلة انتقالية، لأن استخدامه ممكن كبديل في المحركات التقليدية، كما في أجهزة التدفئة العاملة على الغاز أو الديزل. ويردّون على المعترضين أن هذا النوع من الوقود يتعارض مع هدف "صفر كربون"، بالقول إن استخدامه يوصل إلى "الحياد الكربوني". فمع أن انبعاثات كربونية تصدر عن احتراق الوقود الاصطناعي، إلّا أن ثاني أكسيد الكربون المستخدَم في إنتاجه مُلتَقَط من عمليات أخرى، مما يشكّل تعويضاً عن الانبعاثات الجديدة. لكن التحدّي يبقى في إمكان فرض رقابة مشدّدة، لأنه يمكن استخدام الوقود التقليدي في محركات الوقود الاصطناعي، مما يُبطل الفائدة إذا لم تُمنع المخالفات. فالوقود الأحفوري، من بنزين وديزل وغاز طبيعي، سيبقى متوافراً للمستهلكين في الأسواق الأوروبية سنوات طويلة بعد 2035، خدمةً للسيارات الموجودة قبل ذلك التاريخ.
و"الوقود الاصطناعي" مزيج من ثاني أكسيد الكربون الملتقط كمُنتج ثانوي من الصناعة أو وسائل النقل، والهيدروجين المنتَج عن طريق التحليل الكهربائي للمياه، باستخدام مصادر متجدّدة نظيفة كالشمس والرياح. ويرى المعترضون أن هذا يؤجل المشكلة ولا يحلّها، إذ المطلوب هو الوصول إلى "صفر انبعاثات كربونية". وهذا ممكن التحقيق عن طريق استخدام المحركات العاملة بالكهرباء أو الهيدروجين، وليس بالاحتراق الداخلي، الذي، بطبيعته، يولّد انبعاثات كربونية. وبينما تعمل السيارات الكهربائية على بطاريات يتم شحنها من شبكات خارجية، فمحركات الهيدروجين تعمل بالخلايا الضوئية داخل السيارة نفسها، التي تولّد الكهرباء نتيجة لتفاعل الهيدروجين مع الأوكسيجين، فتنحصر الانبعاثات برذاذ الماء.
فكرة الوقود الاصطناعي تستحق المناقشة، وقد تساعد في التحوّل السلس إلى الطاقة النظيفة الخالية كلّياً من الانبعاثات. لكن وقوف كبريات شركات صناعة السيارات الألمانية وراءها يضع شكوكاً حول مصداقيّتها والأهداف الحقيقية وراءها. فهذه الشركات، التي تفخر بإنتاج أسرع السيارات في العالم، هي نفسها التي تضغط لمنع وضع حدّ للسرعة القصوى على الطرقات الألمانية، لتبقى سياراتها مفضّلة لدى السائقين المحبّين للسرعة. وهي نجحت حتى اليوم في فرض إرادتها ومنع التغيير، بدعم من الأحزاب نفسها التي تحمل شعارات الديمقراطية والحرية، وكأن الحرية هي الحق في الموت والقتل على الطرقات أو مضاعفة التلويث. فالقيادة على سرعة 120 كيلومتراً في الساعة تزيد الانبعاثات الكربونية بمقدار 30 في المائة عمّا لو كانت 100 كيلومتر، كما تتضاعف مرات كلّما زادت السرعة، وصولاً إلى ما يتجاوز 200 كيلومتر في الساعة على الطرقات المفتوحة. لذا يجب البدء بوضع حدّ أقصى للسرعة على الطرقات الألمانية لإثبات جدّية التعاطي مع قضايا البيئة والمناخ، وإلا بقي الحديث عن الفوائد المناخية للوقود الاصطناعي محصوراً في العلاقات العامة، الذي يخفي غير ما يدّعي.
أما على الجهة الأخرى من الحدود الألمانية، حيث حدّدت الحكومة الهولندية السرعة بما لا يتجاوز مائة كيلومتر في الساعة، فالمشكلة مختلفة، إذ حصد "حزب الفلّاح المواطن"، الذي يحتل مقعداً واحداً في مجلس النواب الهولندي، العدد الأكبر من المقاعد في انتخابات المجالس المحلية الشهر الماضي. وهذا أعطى دفعاً قويّاً لمطالبته بتأخير خطة الحكومة فَرْض خفض جذري في النشاطات المؤدية إلى زيادة غازات الاحتباس الحراري، خاصة غاز الميثان المتولّد من تربية الأبقار، والنيتروجين الناتج من زراعات مثل الذرة التي تُستخدم لصناعة الأعلاف. ولأن الميثان والنيتروجين، إلى جانب ثاني أكسيد الكربون، من أقوى غازات الاحتباس الحراري، وضعت الحكومة الهولندية برنامجاً لتخفيض سريع في الانبعاثات، تقول إنه ضروري لتحقيق أهدافها المناخية وفق الجدول الزمني الذي التزمت به. هذا يعني تحويل آلاف المزارع، ولاسيما تلك التي تُنتج الأعلاف وتربّي الأبقار، إلى نشاطات زراعية أخرى، تصدر عنها انبعاثات أقلّ. ومع اعترافهم بالمخاطر المناخية من ممارساتهم الزراعية، يطالب المزارعون بتخفيف سرعة الاجراءات.
القوة المستجدّة لحزب الفلاحين أجبرت الحكومة الهولندية والاتحاد الأوروبي على فتح باب التفاوض من جديد. والمأمول ألا تتحكم بالمفاوضات الطروحات الشعبوية من جهة المزارعين، والتمسُّك بأهداف نظرية إيديولوجية من جانب الحكومة الهولندية والاتحاد الأوروبي.
لكن المشهد ليس قاتماً بالكامل، إذ صدرت إيضاً أصوات مختلفة. فبعض شركات السيارات في ألمانيا نفسها، التي استثمرت المليارات في المحركات الكهربائية، اعترضت على تمديد السماح بمحركات الاحتراق الداخلي إلى ما بعد 2035، وطالبت بوضع قيود صارمة لمنع سوء استخدام هذا التدبير الاستثنائي، مما انعكس في التسوية النهائية. وتوصلت دول الاتحاد الأوروبي أخيراً إلى اتفاق بتسريع التحوُّل إلى الطاقة المتجددة، وصولاً إلى 45 في المائة سنة 2030، بزيادة كبيرة عن هدف 32 في المائة الذي حُدِّد سابقاً. وعلى المقلب الثاني من المحيط، أعلنت ولاية كاليفورنيا الأميركية قانوناً يفرض أن تكون نصف الشاحنات المُباعة سنة 2035 عاملة على الكهرباء.
يبقى الشرط الأساسي لنجاح أي تدابير لحماية البيئة ومجابهة التغيُّر المناخي حدوث تغيير جذري في أنماط الاستهلاك. ذلك أن استمرار العادات الاستهلاكية المتفلّتة كفيل بالقضاء على أي فوائد من تنظيف أساليب الانتاج، أكان باستخدام الطاقة المتجددة أو الوقود الاصطناعي. وإذا كان الخيار بين أساليب الحياة والحياة نفسها، فعلى سائقي ألمانيا وفلاحي هولندا تغيير الأساليب للحفاظ على الحياة.
|