وَضَع تقرير دولي صدَر أخيراً لبنان بين طليعة الدول التي حقّقت تقدّماً في التحوُّل إلى الطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء، وذلك بزيادة القدرة أضعافاً خلال ثلاث سنوات. واعتبر البعض هذا اعترافاً دولياً بنجاح كبير للبلد، متناسين أن معالجات فردية جزئية كهذه لا تحلّ المشاكل العامة للمواطنين ولا تمنع الدُوَل من الانهيار. كما أن الإعلان عن مبادرات "خضراء" متفرّقة بالمليارات في دول عربية أخرى لم يوقف السقوط الاقتصادي المريع. فهل المشكلة في الاقتصاد أم في البديل "الأخضر"؟
الجواب عن هذا السؤال يتطلّب تحليلاً دقيقاً للأوضاع في كل بلد. والأساس أن المبادرات الفردية ومساهمات القطاع الخاص، على أهميتها، لا توصل إلى نتائج عامّة قابلة للاستمرار ويستفيد منها جميع الناس، ما لم تكن في إطار خطة وطنية شاملة. فالسياسات الخاطئة والعقيمة للحكومات كفيلة بمحو الفوائد العامّة لكل المبادرات الفردية. ويتوهّم من يعتقد أنه من الممكن بناء اقتصاد حقيقي عبر مبادرات رديفة، تقوم في دول تحكمها مؤسّسات عامة متهاوية. فالمستفيدون الوحيدون في هذه الحالات هم مجموعة من الذين يعرفون "من أين تؤكل الكَتِف"، كما تؤكد الوقائع حولنا: فالدول العربية التي تعاني الإفلاس ويعيش معظم أهلها تحت خط الفقر، هي نفسها التي تضم بعض أكثر الأفراد ثراءً، ومعظمهم راكموا المال من مصادر غير مشروعة، عبر استغلال ثغرات الفوضى والسياسات العشوائية.
بالعودة إلى نموذج "التخضير" اللبناني، نجد أن تقاسم الاحتكارات والامتيازات مَنَعَ التغيير الحقيقي، كما في الطاقة المتجدّدة. فخلال عقدين من النقاشات، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من إقرار قانون لربط الكهرباء المُنتَجة من لاقطات مُركّبة على سطوح المنازل بالشبكة العامّة. أما السبب الحقيقي فيقبع خلف الحجج التي تدّعي وجود صعوبات تقنية تمنع التطبيق، وهو الحفاظ، طوال عقود من الزمن، على امتيازات بعض الشركات التي كانت تشتري الكهرباء من محطات القطاع العام، بأسعار تقلّ عن التكلفة الحقيقية، وتبيعها إلى المستهلكين مع هامش كبير من الربح. ومع انهيار الخدمات الكهربائية العامة كلياً في البلد، انتقلت الاحتكارات إلى حفنة من مشغّلي المولّدات، الذين يزوّدون المستهلكين ببعض الطاقة الكهربائية لقاء بدلات باهظة. وفي حين كانت الإدارات العامة وبعض المجموعات البيئية تتسلّى لسنوات بقياس تلوّث الهواء، من مدخنة مطعم هنا وموقد هناك، في هدر فاضح للملايين من الهِبات والقروض، استمرّت محطات التوليد المتهالكة والمولّدات الكهربائية الخاصة، العاملة على أسوأ أنواع الوقود، بنفث سمومها وسط الأحياء المكتظة.
وسط هذه الفوضى العارمة، التي انتهت بانقطاع كامل لإمدادات الكهرباء، بالتزامن مع إفلاس الدولة التي هدرت ودائع الناس مع حفنة من المستفيدين، اضطُرّ بعض القادرين إلى تركيب ألواح شمسية فوتوفولطية لإنتاج الكهرباء على السطوح. وقد فعلوا هذا اضطراراً وليس حبّاً بالبيئة، مستخدمين القدر اليسير الذي استطاعوا إنقاذه من ودائعهم المنهوبة، أو هِبات من أقاربهم العاملين في الخارج. ولأنهم يحتاجون إلى هذه اللاقطات كمصدر أساسي وليس مساعد للكهرباء، فقد دعموها ببطاريات محدودة الفاعلية للتخزين أثناء فترات غياب الأشعّة الشمسية، في ممارسة غير اعتيادية ومكلفة جدّاً. فتوليد الكهرباء من ألواح شمسية مستقلّة، غير مربوطة بالشبكة، يصلح فقط للمناطق النائية حيث لا شبكات توزيع. والاستخدام الأساسي في هذه الحالات هو لمراكز الاتصالات والخدمات العامة مثل ضخ المياه، حيث يكون حلّ الألواح الشمسية والبطاريات أقلّ تكلفة من تمديد الشبكة العامة.
وإذا كان الناس المحرومون من الكهرباء في اليمن وسورية ركّبوا لوحاً شمسياً صغيراً لإضاءة مصباح وشحن هاتف وبطارية، وتشغيل ثلاجة صغيرة في أحسن الحالات، فالتركيبات في لبنان تستهدف الحصول على إمدادات كهربائية لتشغيل كل الأجهزة والأضواء في معظم الأوقات. وهذا يتناقض مع معايير الكفاءة وحماية البيئة. فالتشغيل السليم اقتصادياً يقتضي ربط الانتاج المنزلي الخاص بشبكة كهرباء عامة، تشتري فائض الانتاج من الألواح الخاصة خلال النهار لخفض عمل محطاتها، وتبيع المستهلكين الطاقة الكهربائية من محطاتها التقليدية في الأوقات الأخرى.
أما "الحلّ اللبناني"، الذي اعتبره بعضهم إنجازاً، فهو تدبير طارئ غير قابل للاستمرار. ذلك أن البطاريات المستخدمة لا تصلح لأكثر من سنتين، وهي تتسبب بتلوّث خطِر عند التخلّص منها، عدا عن أنّ الحاجة إلى إمدادات الكهرباء من مصادر تقليدية ستستمر، في الليل وخلال أيام الشتاء الداكنة، أو حين يتجاوز الاستهلاك قدرة البطاريات على التخزين. وهذا يعني استمرار الانبعاثات السامّة من المولّدات الخاصة ومحطات الكهرباء العامة، التي تستخدم أسوأ أنواع الوقود. وكان الأجدر بالمنظمات الدولية التي تفاخر بالمساعدات أن تدعم تركيب ألواح شمسية وبطاريات لتشغيل الخدمات الأساسية العامة، مثل الاتصالات ومحطات المياه.
وقد سمعت، قبل شهور قليلة، أحد المسؤولين الدوليين يمتدح الدعم الذي قدمته منظمته خلال السنوات العشر الماضية للمصرف المركزي والمصارف التجارية في بلد عربي، لاعطاء قروض لمشاريع "صديقة للبيئة". ووجدتُني مضطراً للفت نظره إلى أنّ المصارف في ذلك البلد كانت تقدم قروضاً استهلاكية للأفراد – وأحدها مخصص لإجراء جراحات تجميلية - أو كانت تُقرِض دولة مفلسة، بدل تمويل مشاريع إنتاجية. ومنذ ذلك الوقت، انهارت المصارف التجارية مع المصرف المركزي، لأسباب كان الأجدر بالمنظمات الدولية التصدي لها وفرض معالجتها قبل منح "القروض الخضراء"، التي اختفت مع غيرها.
الانهيارات الاقتصادية التي تشهدها بعض بلدان المنطقة ليست مفاجأة، إلا للذين رفضوا رؤية الوقائع كما هي، أو للفاسدين الذين توهموا إمكان استمرار الخديعة إلى ما لا نهاية. ويجب أن يكون في هذا عبرة للذين ما برحوا يتحدّثون عن الاستثمار في البيئة وتخضير الاقتصاد، بمعزل عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة، التي لا يجوز فصل البيئة عنها. فلا يمكن بناء "اقتصاد أخضر" في غياب الأسس الصحيحة للاقتصاد، لأن هذا يقوّض المفاهيم البيئية والاقتصادية معاً. كما لا يمكن بناء خطط اقتصادية وبيئية واجتماعية قابلة للاستمرار في غياب الخيارات السياسية والعسكرية والأمنية السليمة. فإصلاح الأنظمة يجب أن يسبق تخضيرها.
|