في أواخر تموز (يوليو) 2022 إعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالبيئة الصحية والمستدامة كحقّ أساسي من حقوق الإنسان، استجابة لقرار مجلس حقوق الإنسان. وهو يُعتبر انتصاراً كبيراً لحماة البيئة في العالم.
فما أهمية هذا الاعتراف؟
من حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها عالمياً: الحياة والصحة والغذاء والمأوى والمستوى المعيشي اللائق. وثمة ترابط عضوي وثيق لحياة وصحة البشر بحالة البيئة، إيجاباً أو سلباً.
وتوضيحاً، تُعرّفُ البيئة بأنها الطبيعة، بما فيها من أحياء وغير أحياء. وهي الوسط الذي يعيش فيه الإنسان مع غيره من الكائنات الحية، ويحصل منه على مقوّمات حياته من مأكل وملبس ومسكن، ويمارس فيه مختلف علاقاته مع بني جنسه.
والبيئة، التي تشمل الهواء والماء والتربة والمعادن والمناخ والكائنات نفسها، ليست مجرد موارد يستمد منها الإنسان مقوّمات حياته، وإنما تتضمن أيضاً علاقة الإنسان بالإنسان التي تنظمها مؤسسات قانونية واجتماعية وقيم وأعراف وطنية.
أما الصحة، فتُعرّفُ بأنها حالة من المعافاة الكاملة بدنياً ونفسياً واجتماعياً وروحياً. وأكّد العلم أن للبيئة تأثيراً كبيراً على صحة المجتمع، وذلك لإرتباط المؤشرات الحياتية والصحية في المجتمع بالوضع البيئي ومشكلاته، وفي مقدمتها التلوُّث والتغيُّرات المناخية وتداعياتها.
وإرتباطاً بذلك، تُعدّ البيئة الصحية أحد أهم فروع الصحة العامة، وذلك لتأثيرها على جميع أشكال النُظم الحيوية. كما يعدّ الإنسان أكثر هذه الأشكال عرضة للضرر، إلى جانب كونه المسبب الرئيس لتدهور أو لازدهار البيئة الصحية بأفعاله التي يقوم بها، حيث تتأثر البيئة الصحية بشكل عام بسلوكيات الأفراد سلباً أو إيجاباً.
إلى هذا، فإن أي استراتيجيات بيئية لا تأخذ منظور الصحة بعين الاعتبار تعتبر استراتيجيات مبتورة. وكذلك الأمر بالنسبة للاستراتيجيات الصحية، التي يجب أن تأخذ المنظور البيئي في الاعتبار، وإلا تصبح مبتورة أيضاً. فقد أكّدت الحياة يومياً، وبإضطراد، الارتباط الوثيق بين حق الإنسان في الحياة والصحة وحقّه في الحصول على بيئة نظيفة، سليمة، ومتوازنة. وإلا فإن هذا الحق يُنتهك، وتتعرض حياة الإنسان للخطر.
بعبارة أخرى، على الحكومات الساعية جدياً لتوفير الصحة المطلوبة لجميع مواطنيها أن تدرك جيداً أن بلوغ ذلك لن يتم إلا في ظل بيئة اَمنة ونظيفة وصحية ومستدامة، عبر مراعاة حقوق الإنسان واحترامها حقاً وفعلاً.
وإدراكاً لأهمية البيئة الصحية، استُحدِثت تخصصات عديدة تهتم بموضوعاتها، كعِلم الأوبئة البيئية، وعِلم التعرض للأمراض، وعِلم السموم، والهندسة البيئية، والقانون البيئي.
وأكّدت دراسات علمية عديدة لمنظمة الصحة العالمية منذ عدّة عقود أن صحة الانسان مرتبطة بقوة بصحة النظام البيئي الذي يلبّي الكثير من احتياجات البشر الأساسية، فتؤدي زيادة عدد السكان عشوائياً والتطور الاقتصادي المستنزِف للموارد الطبيعية والمصحوب بالتلوُّث البيئي، الذي أصبح من أكبر المشاكل التي يواجهها العالم اليوم، إلى حدوث تغييرات سريعة في النظام البيئي العالمي، مما يؤثر على صحة البشر، حيث تتسبب المشكلات البيئية الساخنة بنحو 40 في المئة من الأمراض والوفيات التي تحدث في عمر مبكر.
ونبّهت دراسة بعنوان "تفادي الأمراض من خلال الحرص على بيئة صحية"، إلى أنه يمكن سنوياً انقاذ حياة 4 ملايين إنسان اذا تم تفادي المشكلات الصحية المرتبطة بالمكوّنات البيئية كالهواء والماء والتربة والاشعاعات والضجيج والحقول الكهرومغنطيسية والانشاءات والزراعة والسلوكيات الصحية والنظافة. وأوضحت بان عوامل الخطر البيئية تشهد تحولاً كبيراً مع التنمية.
وفي اَذار (مارس) 2019 حذّر تقرير أنجزته الأمم المتحدة حول حالة البيئة العالمية في السنوات الخمس الأخيرة، عمِل عليه 250 عالماً من أكثر من 70 دولة، من أن الأضرار التي تلحق بالكوكب بالغة الخطورة وتُعرّض صحة البشر للخطر بشكل متزايد ما لم يتم اتخاذ إجراء عاجل. وجاء فيه: " إننا إما أن نزيد من حماية البيئة، أو أن المدن والمناطق في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا قد تشهد ملايين الوفيات المبكرة بحلول منتصف القرن".
هذا يؤكد أن الحق في البيئة الآمنة والصحية والمستدامة يعدّ ضرورة ومكملاً لحقوق الإنسان الأخرى، بما فيها الحق في الحياة والصحة والغذاء والمأوى والمستوى المعيشي اللائق.
ومن هنا ينبغي أن يتوفّر لكل فرد العيش في بيئة تفي بمتطلبات صحته ورفاهيته. ويتعيّن على الدول اتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة لوضع الأطر المناسبة لتوفير المقوّمات الضرورية لبيئة صحية ومستدامة، وكذلك التعاون في ما بينها من أجل معالجة الآثار البيئية العابرة للحدود، مثل تغيُّر المناخ والتلوُّث بالسموم.
ويُذكر أن تبلور فكرة الحق في البيئة والإقرار القانوني بها لم يكن وليد الصدفة، إذ ارتبط بمسار طويل ومتواصل من النضال الدؤوب، ومن التحوّلات والتطورات في موقف المجتمعات الإنسانية ووعيها بحيوية البُعد البيئي ضمن مختلف مناحي الحياة العامة المشتركة فيها.
وكانت بداية المسار الحقيقية هي مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية الذي إنعقد في ستوكهولم عام 1972، وأنهى أعماله بإعلان تاريخي، كان الأول الذي وضع قضايا البيئة على واجهة الإهتمامات الدولية الساخنة، وأسس لبداية حوار بين الدول الصناعية والدول النامية بشأن الترابط بين النمو الاقتصادي ورفاهية الشعوب وبين تلوُّث الهواء والتربة والماء والمحيطات. وأعلنت الدول الأعضاء في ذلك الحين "أن للأشخاص حقاً أساسياً ببيئة ذات جودة تسمح بالتنعم بالحياة بكرامة ورفاهية"، ودعت إلى العمل المشترك الملموس بين الدول الأعضاء، مثلما دعت مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة للتحرك في هذا المضمار. بيد أن هذا الحق الهام لم يتم الاعتراف به دولياً طيلة عقود.
لكن النضال المثابر والمتواصل للبيئيين أثمر تبنّي مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2012 تعيين خبير مستقل يُعنى بمسألة التزامات حقوق الإنسان المتعلقة بالتمتع ببيئة اَمنة ونظيفة وصحية ومستدامة، من ضمن واجباته إجراء دراسة بشأن إلتزامات حقوق الإنسان، بما في ذلك الإلتزامات بعدم التمييز في ما يتعلّق بضمان التمتّع ببيئة اَمنة ونظيفة وصحية ومستدامة.
وإستكمالاً لهذه الخطوة، أعلن المجلس عام 2021 أن التمتّع ببيئة نظيفة وصحية ومستدامة يعتبر حقاً من حقوق الإنسان. ودعا الدول إلى العمل معاً ومع شركاء آخرين لتنفيذ هذا الحق، كما حثّ الجمعية العامة للأمم المتحدة على تبنّي الموضوع واتخاذ قرار مماثل.
وفي السياق ذاته، أوصى "مؤتمر ستوكهولم +50" في حزيران (يونيو) 2022 بأن "تعترف الدول بالحق في بيئة اَمنة ونظيفة وصحية ومستدامة، وتنفيذ ذلك".
وبفضل الدور المشهود والفعال لعلماء وأكاديميين وباحثين ومسؤولين إداريين ومنظمات مجتمع مدني حريصة، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28/7/2022 قرارها التاريخي، الذي اعتبر الوصول إلى بيئة نظيفة وصحية ومستدامة حقاً عالمياً من حقوق الإنسان. ودعا القرار، الذي استند إلى قرار مجلس حقوق الإنسان المذكور، جميع الدول والمنظمات الدولية والشركات التجارية إلى تكثيف الجهود لضمان بيئة صحية للجميع.
هذا القرار التاريخي يُعتبر أكبر إنتصار لنضال البيئيين في العالم. وقد رحّب به الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، وقال إنه يبرهن على إمكانية أن تتحد الدول الأعضاء في النضال الجماعي ضد أزمة الكوكب الثلاثية المتمثلة في تغيُّر المناخ وفقدان التنوُّع البيولوجي والتلوُّث، وإنه سيساعد في الحدّ من المظالم البيئية، وسدّ فجوات الحماية لصالح الناس والمعرّضين للخطر في الأوضاع الهشّة. ودعت المفوضة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليت، الدول الأعضاء إلى اتخاذ إجراءات جريئة "لضمان أن يكون هذا القرار بمثابة نقطة انطلاق للضغط من أجل سياسات اقتصادية واجتماعية وبيئية تحويلية من شأنها حماية الناس والطبيعة".
وإعتبر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان والبيئة، ديفيد بويد، أن هذا القرار سيغيّر طبيعة القانون الدولي لحقوق الإنسان نفسه، مشيراً إلى أن الحكومات قطعت وعوداً بتنظيف البيئة والتصدي لحالة الطوارئ المناخية لعقود من الزمن، لكن امتلاك الحق في بيئة صحية يغيّر منظور الناس من "استجداء" الحكومات إلى المطالبة بالتصرُّف.
الدكتور كاظم المقدادي، طبيب عراقي متقاعد مقيم في السويد