حين أطلقت أبوظبي أخيراً "المئوية البيئية"، لتواكب "مئوية الإمارات"، تذكّرتُ كيف كان أقصى ما يطمح إليه المناضلون البيئيون العرب قبل أقل من عشرين عاماً رؤية كلمة "بيئة" في أي خطة حكومية. لكن الإمارات ذهبت أبعد كثيراً من هذا، إذ وضعت خطة بيئية لخمسين سنة، تمتدّ حتى الذكرى المئوية لتأسيس الدولة في 2071. وكانت السعودية أطلقت سياسات وأهدافاً بيئية تمتد عقوداً، ابتداءً من "رؤية 2030" وصولاً إلى مبادرة "السعودية الخضراء"، للمساهمة في تحقيق الأهداف المناخية مع منتصف هذا القرن. وكانت دول عربية أخرى، بينها مصر والمغرب والأردن، التزمت، على مستويات مختلفة، بسياسات بيئية طويلة الأجل.
أهمّ ما يحمله هذا من مؤشّرات، مهما كانت التفاصيل، بروز نظرة جديدة إلى البيئة تعتبرها جزءاً متكاملاً في سياسات التنمية، لا إضافة شكلية على غرار "لزوم ما لا يلزم".
الخطة البيئية المئوية، التي أعلنتها هيئة البيئة في أبوظبي، تطمح لوضع الإمارات بين طليعة دول العالم في العمل البيئي خلال خمسين عاماً، أي بعد مرور مائة عام على تأسيس الدولة في 1971. وتربط الخطة جهود الحفاظ على البيئة بالاقتصاد وفرص الاستثمار في التكنولوجيا والبحث العلمي، بما يمكّن جميع القطاعات الحيوية في المجتمع من المشاركة في تحقيق الأهداف البيئية المشتركة، عبر التحوُّل إلى الاقتصاد الأخضر، الذي هو وحده ضمانة تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
تتخذ "مئوية البيئة" ثلاثة مسارات، تبدأ بالحفاظ على التنوُّع البيولوجي والموارد الطبيعية، للحصول على أفضل النُظُم الطبيعية المستدامة، وفق أعلى مقاييس الجودة. ويلتزم المسار الثاني بأن يكون البلد قوّة خضراء تتصدى للتغيُّر المناخي بناء على رؤية استباقية، بالتحوُّل كلياً إلى الطاقات المتجددة والنظيفة، والحدّ من هدر الموارد عن طريق اعتماد نهج الاقتصاد الدائري، والاستثمار في البنى التحتية الخضراء، بما يراعي رأس المال الطبيعي ويكفل القدرة على منافسة أكثر اقتصادات العالم تقدُّماً. أما المسار الثالث فيهدف إلى تطوير القدرات البشرية لقيادة المستقبل، على نحو يحفظ البيئة والحق في التنمية المستدامة، وذلك عن طريق تسريع السياسات والتشريعات الخضراء، وتطوير نُظُم غير تقليدية للتوعية والتربية البيئية، والابتكار في مجال العلوم والتكنولوجيا الصديقة للبيئة. وتدعو الخطة إلى دمج كل هذه المبادئ في العمل الحكومي المستقبلي على جميع المستويات، فتكون الاعتبارات البيئية في صلب السياسات والبرامج التنموية.
هنا لا بد من الاعتراف أن هذه التوجّهات لا تأتي من فراغ، بل هي استعادة لتراث يحترم موارد الطبيعة المحدودة ويقوم على حمايتها وتنميتها، بحيث تحافظ على قدرتها تزويد البشر بحاجاتهم الأساسية. والأكيد أن شظف العيش في بيئة صحراوية جافة كان وراء تمسّك أهلها بثقافة نبيلة، تقوم على عدم هدر المياه القليلة المتوافرة، والحفاظ على النبات والحيوان. صحيح أن عقود التطوُّر السريع، التي شهدت استثمارات ضخمة في الموارد الطبيعية وتمدّداً أسطورياً في المدن وشبكات المواصلات والصناعة، حملت مع التحديث والتطوّر الاجتماعي والاقتصادي أضراراً جمّة على البيئة والأنظمة الطبيعية. لكن الخطط الطموحة التي تعلنها الحكومات اليوم تكشف أوّلاً اعترافاً بالمشكلة، وهي بداية الطريق لحلّها عبر المبادئ التي اعتمدتها. فحلّ التحدّيات البيئية المعقّدة في هذا الزمن يتطلَّب خططاً حديثة أبعد من العواطف النبيلة والتمنيات.
تذكَّرت، وأنا أقرأ تفاصيل "مئوية البيئة"، حديثي مع رئيس دولة الإمارات ومؤسس نهضتها الحديثة، الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، قبل ربع قرن، والذي كان موضوع غلاف مجلة "البيئة والتنمية" في نوفمبر (تشرين الثاني) 1997. هذا الرجل مناضل بيئيّ بالفطرة، تقوم أفكاره على مبادئ التنمية المستدامة المتوافقة مع محدوديات الطبيعة. فهو دعا في تلك المقابلة إلى أن "تتوازن الطبيعة والخليقة من جديد. إذ لو ازدهرت معيشة الإنسان ولم تتأمن معيشة الحيوان وسلامة الطبيعة، يكون هنا قلّة إنصاف. وعلى الإنسان القادر أن يعمل ما في استطاعته لحفظ حقوق الاثنين". وحين سألته لماذا يزرع الغابات في الصحراء، أجاب أن هدفه تحقيق "رِفعة الإنسان والطبيعة"، فضلاً عن أن الغطاء الأخضر يساهم في اعتدال المناخ ووقف التصحُّر. وقد شرح الشيخ زايد أن "الأرض تصبح غالية عند الإنسان عندما تدرّ عليه ويَسرُّه منظرها، فيرتاح ويستأنس". وتابع الشيخ البيئي: "في البداية ركّزنا على رِفعة الإنسان وقدرته وعلمه وثقافته ومعيشته، ثم بدأنا الاهتمام بأمور أخرى، مثل الحفاظ عل الطبيعة والحياة البرّية وإكثار الأنواع المهدّدة بالانقراض، لأن الحياة المتكاملة تكون في كل مخلوقات الله".
يُثبت كلام الشيخ زايد أن كلّ خطّة لرعاية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة في البلدان العربية يجب أن تكون استعادة لتراث هذه المنطقة، الذي قام على الحرص في استخدام الموارد وحماية الطبيعة، مصدر الحياة. لذا، فكل مبادرة جديدة في هذا المجال هي عودة إلى الجذور، بأساليب حديثة تستفيد من الاكتشافات العلمية والتقدم التكنولوجي.
إذا كانت الخطط الطويلة الأجل مطلوبة ومفيدة، فنجاحها يعتمد على مبادئ أساسية، أوّلها وضع أهداف واضحة وربطها بجدول زمني محدّد. هذا يمنع استخدام الأهداف الكبرى، المخطَّطة لما بعد عشرين سنة أو خمسين، كحجّة للتقصير في تحقيق أهداف عاجلة قريبة. ومن الضروري إجراء مراجعات دورية لتحديد مدى التقدُّم في إنجاز الخطط وتحقيق الأهداف، مع وضع آليات لاكتشاف الأخطاء في مرحلة مبكرة، بما يسمح بتصحيح المسار قبل فوات الأوان. وهذا يصحّ على "المئوية البيئية" للإمارات سنة 2071، كما يصحّ على الخطط الدولية لتحقيق الأهداف المناخية سنة 2050. والأكيد أن الانتقال من يوميات البيئة إلى مئويّتها يُسرّع الطريق نحو المستقبل.
|