تستضيف اسكوتلندا بمدينة غلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ للأطراف (COP26) في ضوء زخم عالمي سياسي وشعبي مؤيد للتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة للوصول إلى مزيج للطاقة النظيفة (ذي صافي انبعاثات صفري) بحلول عام 2050 أو أقرب وقت بعده، تحقيقاً لهدف اتفاق باريس لتغير المناخ الرامي إلى المحافظة على الارتفاع المتوقع في متوسط حرارة الأرض دون 1.5 درجة مئوية. وتأتي الطاقة المتجددة، كالشمس والرياح، في مقدمة المصادر المستهدفة لذلك المزيج، يضاف إليها الطاقة النووية والطاقة الأحفورية النظيفة الخالية من الكربون، لكن دوريهما غير مؤكدين. فهناك اتجاهات متعددة، ومتناقضة أحياناً، حول المسار الأمثل لهذا التحول، والجهات التي ستتحمل تكاليفه الاستثمارية الباهظة المقدرة وفق سيناريو الوكالة الدولية للطاقة بنحو 5 تريليونات دولار سنوياً بحلول عام 2030. وثمة خلافات كبيرة بين الدول الصناعية حول كيفية المضي قدماً في الحد من الانبعاثات؛ إذ يعارض بعضها التوسع في استخدام الطاقة النووية وتطوير تقنيات الطاقة الأحفورية النظيفة والتوسع فيها، وحتى تضمينهما في قوائم الطاقة النظيفة لأغراض التجارة العالمية، بل تضع عقبات أمام تصدير واستيراد الهيدروجين الأزرق المستخلص من النفط والغاز.
وما زالت تلك الدول، ودول أخرى ومعظم الناشطين البيئيين، يراهنون على أن يكون الدور الرئيسي –إن لم يكن الوحيد– هو للطاقة المتجددة، على الرغم من وجود عقبات فنية واقتصادية جوهرية تحول دون ذلك عندما يتجاوز نصيبها في الشبكات الكهربائية نحو 30%، أهمها عدم توفرها بانتظام وضعف شدة تدفقها، مما يحتم تحقيق التوازن بين تباينها وضمان مرونة الشبكة الكهربائية من خلال تزويدها بأنظمة تخزين للطاقة بسعات ضخمة أو الاحتفاظ بمحطات بديلة.
ويتوقع عدد من سيناريوهات تحول الطاقة انخفاضاً حاداً بنسبة مساهمة الطاقة الأحفورية من إجمالي الطلب، من 80% حالياً إلى نحو 20% بحلول عام 2050 -مثل سيناريو الوكالة الدولية للطاقة المذكور آنفاً. بيد أن مثل هذه السيناريوهات مثالية ومتطرفة، وبالغة الصعوبة. وهنالك نطاق واسع لتوقعات سيناريوهات أخرى، يقع بعضها على الطرف الآخر في فرضياتها وتوقعاتها. فالسيناريو الرئيسي في تقرير «أوبك» السنوي الأخير لمنظور الطاقة يتوقع استمرار نمو الطلب على النفط والغاز، وإن بوتيرة أقل، حتى عام 2045 على الأقل، مع انخفاض طفيف في حصة مصادر الطاقة الأحفورية إلى نحو 70% من الإجمالي. وبغضّ النظر عن درجة تفاؤل أو تشاؤم تلك السيناريوهات، فإن هدف ومسار تحول الطاقة واضحان لا لبس فيهما: أي الانتقال سريعاً إلى مزيج الطاقة النظيفة، مع وجود نطاق واسع لمكوناته وسرعة تحوله.
إن الحماس المتزايد لحماية البيئة، الذي يكتنف بعضه نظرة سلبية متزايدة، يكاد يكون آيديولوجية متنامية ضد مصادر الطاقة الأحفورية، وسيدفع باتجاه تسارع سياسات التحول عنها ما لم تأخذ بزمام المبادرة الدول التي تملك احتياطيات ضخمة منها، وتكاليف إنتاجهما فيها زهيدة، كدول الخليج، وما لم تبدأ فوراً -حفاظاً على مصالحها- بالاستثمار المكثف والاستراتيجي في تطوير تقنيات احتجاز واستخدام وتخزين CO2، لديها أولاً، بما في ذلك تقنيات التقاط CO2 من الهواء مباشرة، التي يعوّل عليها كثيراً في معظم سيناريوهات التحول إلى الطاقة النظيفة. وسيمكِّن هذا الاستثمار من الإسراع في استخدام هذه التقنيات على نطاق واسع تجارياً والمحافظة على دور الطاقة الأحفورية كأحد أهم مكونات مزيج الطاقة النظيفة مستقبلاً لمواجهة تغير المناخ، وسيوفر منافعها لشرائح المجتمع في إطار عادل لتحمل تداعيات هذا التحول العالمي.
ومع أن هناك مشاريع عديدة تنفذها دول صناعية ونامية من الدول المنتجة للنفط والغاز، لكن معظمها ما زالت ذات سعات صغيرة وتنمو ببطء نظراً لتكلفتها المرتفعة. وعليه، ولأن مؤتمر الأطراف يتطلع إلى الإعلان عن مزيد من التعهدات من الدول الأعضاء للوصول إلى مزيج الطاقة النظيفة بحلول عام 2050 يمكن لدول الخليج أن تطلق قبيل المؤتمر مبادرة طموحة وجذابة في آن واحد، تتعهد فيها بتزويد محطات إنتاج الكهرباء العاملة بالوقود الأحفوري لديها بأنظمة استخلاص وتخزين CO2 بحلول عام 2035، وستلقى مبادرة كتلك ترحيباً لافتاً واهتماماً عالمياً، وسيحقق تنفيذها بنجاح خفضاً ملموساً في انبعاثات CO2 بدولها نسبته 25% تقريباً؛ أي نحو 1% من إجمالي الانبعاثات العالمية، وهو انخفاض كبير مقارنةً بنسبة حجم اقتصادات هذه الدول إلى إجمالي الاقتصاد العالمي البالغة نحو 1.8%. والأهم من ذلك، ومن خلال التعاون في مبادرات وشراكات فعالة مع الدول الصناعية والنامية المصدّرة للنفط والغاز، سيُحدث تنفيذ هذه المبادرة خفضاً كبيراً في تكاليف تقنيات استخلاص وتخزين CO2، وسيزيد من موثوقيتها وقبولها عالمياً ويحقق طفرة واسعة في استخدامها عالمياً، كوسيلة متميزة للوصول سريعاً إلى مزيج الطاقة النظيفة دون الإضرار بمصالح دول الخليج واقتصاداتها. وسيشكل ذلك ضماناً لاستمرار دور النفط والغاز مستقبلاً، ويعود بالنفع على الدول المنتجة والمصدّرة للنفط والغاز، ويسهم في تحقيق أحد أهم أهداف التنمية المستدامة المتمثل في توفير مصادر الطاقة النظيفة (الكهرباء والوقود) لسكان العالم من الفقراء المحرومين منها أو ممن لا يستطيعون الحصول عليها لارتفاع تكاليفها.
وحديثاً، بدأت دول الخليج تنحو هذا المنهج، وفي مقدمتها السعودية التي تسلك مساراً واضحاً نحو تحول الطاقة كجزء من رؤيتها لعام 2030، وبدأت بإطلاق وتنفيذ مبادرات بيئية وبرامج لخفض الانبعاثات مثل مبادرة «السعودية الخضراء». كما أعلنت التزامها بأن تصبح محايدة للكربون، وعزمها إنتاج 50% من طاقتها الكهربائية من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030. وعالمياً، أعلنت مجموعة العشرين عام 2020 تأييدها لمبادرة الاقتصاد الدائري للكربون (CCE) التي أعدتها السعودية، والتي تشكل تقنيات استخلاص وتخزين CO2 أهم ركائزها، إضافة إلى تطوير تقنيات رفع كفاءة الطاقة، والطاقة المتجددة والطاقة النووية. وتسعى السعودية إلى تطوير مشاريع إنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر (باستخدام الطاقة المتجددة) والأزرق (باستخدام النفط والغاز)، بالتعاون مع اليابان ودول أوروبية. وسلكت الإمارات مساراً مشابهاً منذ نحو 15 عاماً، حين أطلقت مبادرات رائدة، ونفّذت برامج ومشاريع خضراء عملاقة، كإنشاء مدينة مصدر للطاقة النظيفة، وبناء أربع محطات نووية للكهرباء –جرى تشغيل اثنتين منها– ومحطات للطاقة الشمسية الضخمة بسعات إجمالية تفوق 2 غيغاواط. ولديها مشاريع لاستخدام تقنيات استخلاص وتخزين CO2 وإنتاج الهيدروجين الأزرق والأخضر، وأعلنت مؤخراً عزمها الوصول إلى مزيج الطاقة النظيفة عام 2050، وسعت باقي دول الخليج إلى إطلاق مبادرات ومشاريع مشابهة، وإن كانت أقل طموحاً ولا تحظى بنفس الحماس لتنفيذها.
الدكتور عدنان شهاب الدين، زميل باحث أول زائر في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، عضو مجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
|