المبعوث المناخي الأميركي جون كيري انضم إلى الناشطين البيئيين حين طالب بإجراءات مباشرة تحوِّل نتائج البحث العلمي إلى سياسات وخطط. قد يصحّ هذا في عالم مثالي، لكن الفرق بين العِلم والسياسات العامة شاسع، وسط العناصر المعقَّدة والمتشعبة والمتناقضة التي يشهدهاهذا العصر. فقد يوصي العِلم بوقف فوري للانبعاثات ومنع استخراج بعض الموارد الطبيعية، لكن وضع السياسات التنفيذية شأن آخر، يرتبط بالانعكاسات على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. فالسياسات العامة هي دائماً نتيجة لتسويات بين مطالب مختلفة، والحلول الفضلى هي التي تأتي بتغيير متدرّج وتحوُّل سلس، لتحقيق توازن بعيد المدى بين الانسان والطبيعة.
غالباً ما يواجه صانعو السياسات قرارات صعبة بين خيارات متناقضة. أما حين يكون الحلّ الطبيعي المتوازن موجوداً، فمن المستهجن اللجوء إلى خيار خارج المنطق. وإذا كانت الخيارات السيّئة نوعاً من الممارسة اليومية في بلدان تفتقر إلى الحوكمة الصحيحة، فهي تدعو إلى الاستغراب في بلدان حققت خطوات متقدمة في الحوكمة البيئية. ما يحصل في الأردن مؤخراً نموذج على هذه الممارسات. صحيح أن قرار اقتطاع جزء من محمية ضانا بهدف استخراج النحاس مرفوض بيئيّاً، لكنّ حجة مؤيّديه بفوائده الاقتصادية قابلة للنقاش. أما إعلان وزيرة الطاقة الأردنية الأخير عن النيّة بتجديد شبكة ضخمة لايصال الغاز الطبيعي إلى المنازل، فقرار مستغرب يجانب المنطق الاقتصادي بالتحديد، لا الاعتبارات البيئية فقط.
فحين أعلنت الوزيرة نفسها قبل سنوات عن وقف منح التراخيص لمشاريع جديدة كبرى لانتاج الطاقة من الشمس والرياح، برّرت القرار بفائض الانتاج الكهربائي. وإذ هي تبشّر اليوم بتجديد شبكات الغاز إلى المنازل لاستخدامات التدفئة والطهو، فهي تسير عكس التيّار، إذ إن الاتجاه العالمي الجديد هو التحوُّل من الغاز إلى الكهرباء للأغراض المنزلية، حتى في بلدان تنتج الغاز، مثل هولندا. فاستخدام الغاز ممنوع منذ سنوات في الأبنية الجديدة، التي عليها استخدام الكهرباء للطهو والمضخات الحرارية الكهربائية للتدفئة. وتجري الاستعدادات اليوم لتعديل شبكة الغاز، بحيث تستطيع استقبال الهيدروجين كوقود بديل نظيف، يتم إنتاجه بتقنية التحلّل المائي.
إذا كانت هذه حال بلد منتج للغاز مثل هولندا، التي تستغني عن شبكات غاز موجودة، فما مبرّر تمديد شبكات جديدة في بلد يستورد الغاز ولا ينتجه، بينما يتمتع بفائض في الكهرباء النظيفة؟ ألم يكن من الأجدى الاستفادة من شبكة الكهرباء الموجودة وتطويرها، لاستقبال حمل أكبر من الطاقة وتشجيع التحوُّل من الغاز إلى الكهرباء للاستخدامات المنزلية؟
لكن بالرغم من صعوبة إقامة توازن مثالي بين متطلبات التنمية الاقتصادية وحماية البيئة، فقد حملت الأسابيع الأخيرة بعض الأخبار المضيئة من المنطقة العربية.
فمنذ أيام، أُعلن انضمام محمية جزر فرسان السعودية إلى برنامج "الانسان والمحيط الحيوي" الذي ترعاه منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو). وتمتاز جزر وشواطئ فرسان، التي تقع في منطقة جازان جنوب غربي السعودية، بتنوُّع بيئي وحياة فطريّة نادرة، إلى جانب معالم معمارية فريدة وتراث إنساني وثقافي عريق. وتصبح فرسان، وفق هذا التصنيف، واحدة من أهم المواقع في العالم التي تلتزم بمعايير واشتراطات علمية دقيقة لتحسين التفاعل بين الانسان والبيئة. ومن المنتظر أن تحتل مكانة متقدّمة في برنامج السعودية لتطوير السياحة البيئية المستدامة.
وفي مجال تحويل البرامج البيئية إلى فرص اقتصادية، أعلنت أكبر مجموعة مالية سعودية عن إنشاء صندوق استثماري لتنفيذ برامج المبادرة البيئية الوطنية. ويستهدف هذا الصندوق استقطاب مستثمرين محليين وعالميين مؤهَّلين للمشاركة في شركات الطاقة المتجددة والنقل النظيف والادارة المستدامة للمياه والتكيُّف مع التغيُّر المناخي. ويدعم الصندوق أهداف الاستدامة وفقاً لما جاء في "رؤية السعودية 2030"، بما يعزّز المبادرات البيئية والاجتماعية والحوكمة. وكان صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهو أحد أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، قد أعلن بداية هذا الشهر عن تأسيس "منصة الرياض الطوعية لتداول وتبادل تأمينات وتعويضات الكربون". ويغطي عمل المنصة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مما يُعتبر مساهمة سعودية رئيسية في مواجهة تحدّيات التغيُّر المناخي وتحفيز جميع القطاعات على تقليل انبعاثاتها.
وفي مصر، أقرّ مجلس النوّاب قانون الموارد المائية والري الجديد، الذي يهدف إلى ترشيد الاستهلاك والحدّ من تلويث نهر النيل. ومن مندرجات القانون تبطين الترع المائية وتعميم الري بالتنقيط بدلاً من الغمر، للحدّ من الهدر في المياه. ويُتوقَّع أن تتضمن اللوائح التنفيذية للقانون اشتراطات صارمة على المنشآت السكنية والتجارية والصناعية والزراعية الواقعة على ضفاف النيل، لحماية مياهه من التلوُّث. ولا بدّ من أن يقوّي هذا القانون موقف مصر التفاوضي بشأن حقوقها في مياه النيل. وقبل أسابيع، كانت مصر قد أعلنت البدء بتحويل مطاراتها إلى العمل بالطاقة المتجدّدة.
وفي الإمارات، تم الاعلان مؤخّراً عن مجموعة من المشاربع الجديدة لزيادة مستويات إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح. فقد أكّدت هيئة كهرباء ومياه دبي أنها ستضيف 600 ميغاواط من القدرة التشغيلية للطاقة الشمسية النظيفة خلال السنة الجارية، ليرتفع الانتاج إلى 1613 ميغاواط، مقارنة مع 1013 ميغاواط بداية السنة. وفي حين تمت إضافة 300 ميغاواط من الألواح الشمسية في يوليو (تموز)، يشهد الشهر الحالي تدشين أعلى برج في العالم لانتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية المركّزة، بقدرة 100 ميغاواط. وتستمر أبوظبي في تعزيز قدرة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، بعدما وضعت قيد التشغيل محطة "نور"، وهي أكبر مجمَّع مستقل للطاقة الشمسية في العالم اليوم، بقدرة 1177 ميغاواط يولّدها أكثر من 3 ملايين لوح شمسي. ومن المتوقَّع أن تبدأ محطة الظفرة في أبوظبي إنتاج ما يزيد عن 2000 ميغاواط من الطاقة الشمسية خلال سنة 2022، مما يكفي لتزويد أكثر من 160 ألف منزل بالكهرباء.
عسى ألا تتراجع بلدان حققت تقدماً مشهوداً في رعاية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة عن إنجازاتها، وأن تستمر البلدان التي بدأت نتائج خياراتها الصحيحة بالظهور في تحقيق المزيد، استناداً إلى سياسات متوازنة يحرّكها قلق المستقبل. ويبقى القرار السياسي الأفضل هو ذاك الذي يحترم الحقائق العلمية بالتوافق مع وقائع السياسة العامة. فإذا التقى الاثنان، يتحقق الحل المثالي.