يُحكى أن مندوب المتصرف حلّ ضيفاً على بيت في إحدى قرى جبل العرب في سورية. وحيث أن أهل الجبل يُعرفون باللهفة والكرم، فقد أبى صاحب البيت أن يغادر المندوب من دون أن يشركه في طعام الغداء. وعندما استفسر الأخير عن نوع الطبيخ، أجابه المضيف أنه "مُقلَّى الكِشْك".
ونظراً لكون المندوب من غير أهل المنطقة، ولا يعرف طبخها وما تشتهر به من مأكولات، راعه أن يتورّط في غداء يجهل مكوناته ولا يدرك قيمته، فيأتي على غير ما يشتهي وترتجي نفسه، ولذلك تساءل: «وما هو الكشك؟». ابتسم صاحب البيت، مدركاً أن الفرصة واتته ليعرّف ضيفه بتميّز هذا الطبق وصعوبة تحضيره، وقال: «نصنع الكشك من البرغل الذي نخلطه باللبن جيداً، ثم نتركه في الشمس ليتصلب ويتماسك تماماً. وبعد ذلك نأخذه إلى المطحنة التي تحوّله مسحوقاً ناعماً كالدقيق، ثم ...».
قاطع المندوب مضيفه، منكراً تناول خلطة البرغل واللبن التي تسمى كشكاً، وقال: «جميل، جميل. لكن الكشك، على مذاقه الفريد وقيمته الغذائية العالية حسبما أرى، يستغرق وقتاً طويلاً لا أملكه. ليكن غداؤنا ديكاً محشياً، فهو أخف على المعدة وأسرع في التحضير».
كثيراً ما نضطر في حياتنا العملية لاستبدال مقلّى الكشك بالديك المحشي، والأمر هنا لا يتعلق بأطباق طعام نختار منها ما نحب ونستبعد ما نجهل، بل هو تقييم للبدائل واختيار الأنسب لتحقيق الأهداف بطريقة أسرع، وأخف على المعدة! مشاريعنا الهندسية، البيئية منها بشكل خاص، تنطوي أحياناً على جوانب غامضة لا نملك معطيات وافية عنها، فهل نتوقف عن العمل ريثما تتصلب أفكارنا وتتماسك؟
الحسم في هذا المجال هو للخبرة من دون أدنى شك، فالشخص الخبير هو الأقدر على السير في المشاريع التي يشوبها الغموض وتنقصها المعطيات، أو اتخاذ القرار بالتريث وحتى الإيقاف.
يعتمد تصميم مطامر النفايات بشكل كبير على معرفة نفاذية التربة، ويستلزم ذلك إجراء سبور في الأرض وأخذ عينات منها واختبارها. لكن في حال كان المطمر صغيراً يمكن للمصمم الخبير أن يتجاوز الممارسة الهندسية التقليدية وينفّذ طبقة عازلة اصطناعية مفترضاً أن التربة غير كتيمة. القرار ليس أمراً هندسياً فحسب وإنما يعتمد على موازنة الكلف والمخاطر، فإذا كانت كلفة اتخاذ الاحتياطات (الطبقة العازلة) تقل عن كلفة الحصول على البيانات (اختبار التربة)، فالجدوى هي في إقلال النفقات وتوفير الوقت، لا في تحرّي الدقة وانتظار اكتمال المعطيات.
الإدارة الحديثة للمشاريع تقوم بتطوير أدواتها وأساليبها لتراعي محدودية معارفنا. ومن أساليبها الجديدة ما يعرف بالإدارة الرشيقة Agile Project Management التي تعالج إشكالية ضعف المدخلات وضبابية الغايات. وهي تعتمد على تقسيم المشروع لمكوّنات مرحلية صغيرة يجرى تنفيذها بالتسلسل وفق المعطيات المتاحة وتطويرها بما يحقق غاية العمل، وهكذا حتى اكتمال المشروع بما يرضي الزبون.
فإذا عدنا إلى حكايتنا الأولى، وحاولنا إدارة الغداء بشكل رشيق كأي مشروع هندسي، نجد الغاية واضحةً: ملء المعدة بما لذ وطاب. أما التفكير بالديك المحشي وحده فهو قلة حيلة وقصر النظر، وكان الأحرى بمندوب المتصرف تقسيم غدائه إلى مكوّنات مرحلية أولها "الديك المحشي" ريثما يكتمل تجهيز المكوّن الثاني "مقلّى الكشك" فيخضعه للاختبار والتقييم. ولعل هذا التقسيم يفسح المجال لظهور مكونات أخرى تسهم في تحقيق غاية المشروع، أقصد الغداء، على أفضل وجه.
|