قبل سنوات قليلة اجتمعت كل المؤسسات المانحة في العالم في باريس وناقشت كيفية تطوير برامجها الداعمة للتنمية في دول الجنوب، وخرجت بمجموعة من المبادئ التي تبناها إعلان باريس ومن ضمنها مكافحة الفساد في تقديم مساعدات التنمية. لكن إلى أي مدى تلتزم هذه المؤسسات بمكافحة الفساد حقاً، وهل تضطر إلى أن تتجاوز هذه المبادئ لتمرير صفقات مع حكومات ووزارات فاسدة أم أنها تصل حتى إلى مستوى "تشجيع" ودعم الفساد؟
في القطاع البيئي في العالم العربي، هنالك اعتماد شبه تام على المساعدات الخارجية نظراً لضآلة الدعم المحلي لبرامج حماية البيئة وعدم قناعة المسؤولين وصناع القرار بهذه الأولوية. الدعم المقدم من الجهات المانحة يتجه نحو الحكومات والمجتمع المدني وأحياناً القطاع الخاص والأكاديمي حسب معايير التمويل. تعشق الحكومات العربية المشاريع التي تندرج تحت بند "بناء القدرات" وكذلك الجهات المانحة. أذكر مسؤولاً في وزارة بيئة عربية بقي مدة 15 سنة يطالب الدول المانحة بدعم لبناء القدرات في وزارته، ولم يظهر أي أثر لهذه القدرات العظيمة بعد كل تلك السنوات. مشاريع بناء القدرات هي مفتاح السفر واللجان والمكافآت والمياومات والاستشارات، لكن في معظم الحالات تعوزها الإرادة السياسية. ما أن ينتهي مشروع بناء قدرات بتوصيات محددة وواضحة حتى يأتي المشروع التالي ليبدأ من جديد ويقدم توصيات مختلفة أو مكررة. المهم في العملية تعظيم الاستفادة من المال المجاني وخاصة تحت نظرية "ما الذي سنحصل عليه" مقابل الدعم، والجواب على هذا السؤال يكون في الغالب مصالح شخصية فقط.
في حالات كثيرة تضطر المؤسسات المانحة لعقد صفقات مع مسؤولين حكوميين يتعمدون تعطيل بعض المشاريع بحثاً عن مكاسب شخصية. هذه المكاسب قد تتراوح بين عضوية لجنة أو تعيين شخص قريب في مشروع، وقد تصل إلى إحالة عطاءات كبيرة على شركات يمتلك المسؤول أسهماً فيها أو يكون شريكاً في أرباحها. تتغاضى الجهات المانحة أحياناً عن تلك السلوكيات بهدف ضمان تنفيذ مشاريعها والحصول على الأهداف الأكبر، وهي معادلة معروفة أصبحت تمارس بكفاءة عالية من الجهتين، بل ان بعض الجهات المانحة التي تتشدد في عدم تقديم هذه الصفقات يصبح مغضوباً عليها ولا تحصل على موافقة رسمية لتنفيذ المشاريع، ويتم البحث عن ممولين آخرين "أكثر تساهلاً" في شروط التمويل.
إذا كان الفساد في القطاع العام معروفاً فهو أيضاً أصبح منتشراً في المجتمع المدني. تشير سجلات العديد من الجمعيات التي تم إنشاؤها في مختلف الدول العربية إلى حالات ثراء عجيبة أصابت القائمين عليها نتيجة المشاريع التي نفذوها. وبالرغم من وجود لوائح ومعايير تمنع الإثراء الشخصي، هنالك عدة وسائل للتلاعب في هذه العقبات، وبالتالي تسهيل تدفق الأموال من الجهات المانحة نحو الأشخاص القائمين على الجمعيات أكثر من تحويلها للإنفاق الفعلي على الأنشطة. كل ما يتطلبه الموضوع تقارير سير عمل بموازنات يتم التلاعب بها تحت موافقة الطرفين. ظاهرة أخرى انتشرت في العالم العربي هي "تفريخ" المنظمات الجديدة. فإذا كان شخص ما قد أثبت نجاحاً مع منظمات مانحة وهو يعمل مديراً للمشاريع في جمعية ما، يمكن له أن يستقيل من جمعيته الأولى ويفتح "بقالة" أو جمعية جديدة يصبح فيها هو الآمر الناهي ويحصل على أموال الجهات المانحة مباشرة بدلاً من المرور بجمعيته السابقة.
الفساد في المشاريع البيئية والتنموية في العالم العربي كبير. وللأسف فإن بعض الجهات المانحة شريكة في هذه الممارسات التي تتعارض تماماً مع قيم الشفافية والنزاهة في الإدارة التنموية.
|