قال مُحدِّثي: المستقر لدينا، منذ زمن طويل، أن النمل يتناقل المعلومات ويحقق الاتصال عبر وسيلة كيميائية. فهو يتبادل إفراز مواد تدعى "فيرمونات"، ويترجم إحساسه بها شماً إلى معلومات. فكيف تيسَّر للنبي سليمان أن يستمع إلى حديث بهذه اللغة غير المنطوقة؟
قلتُ: لقد سألت نفسي هذا السؤال بعد دراستي سلوك النمل، لكن ذلك لم ينل من صدق إيماني بالقصة الدينية. وذلك لأن قناعتي هي أن ذلك النبي الكريم قد هيأ له الله قدرات خاصة تمكنه من الإنصات إلى حديث النمل. ولن يقلل من شأن هذه القدرات، أو يزيدها، إن كانت أصوات النمل ترددات مسموعة أو كيماويات ذات رائحة متميزة متغيرة الدلالات. فنحن لا نعرف كُنه هذه القدرات المتعددة، التي كانت تجعله يفهم حديث الطير، ويبادله الكلام، ويتعامل مع الجن. فنحن أمام معجزة، إما تقبلها كلها وإما ترفضها كلها. وعلى أي حال، الإيمان بالمعجزات التي تحققت مع الرسل والأنبياء مشترك بين كل الأديان.
خلال جولة لي في مكتبة الإسكندرية، عثرتُ على عدد من مجلة Discover الأميركية، صادر في آب أ(غسطس) 1999، وفيه موجز لحدث علمي هام متصل بالنمل. فقد أعلن أحد الباحثين في جامعة ميسيسيبي أن للنمل وسيلة اتصال أخرى عاجلة، يلجأ إليها في الملمَّات، ويمكن تشبيهها بالخط الساخن أو صفارة الإنذار. ففي حالات الحرج، وعند الضرورة القصوى، تصدر النملة ترددات صوتية واهنة، ناتجة عن احتكاك إحدى قوائمها بخطوط بارزة على ظهرها، فكأنها تضرب على أوتار!
وقد استطاع ذلك الباحث أن يسجل تلك الأصوات خلال تعامله مع النوع المعروف باسم "نمل النار"، في برنامج بحثي يهدف إلى إيجاد وسائل للسيطرة على هذه الحشرة التي تتسم بالشراسة، بعد أن تزايدت حشودها بشكل لافت للنظر في دول أميركا الجنوبية. وكانت المرة الأولى عندما حاول الباحث، خارج نطاق البرنامج البحثي وبدافع من حب الاستطلاع، أن يستمع إلى ما تقوله هذه الحشرة المزعجة. فدسَّ لاقط صوت حساساً داخل أحد الاستحكامات الترابية التي تبنيها جيوش نمل النار، وراح ينصت. فجاءته أصوات وصفها بأنها لا يمكن أن تكون صادرة عن الهرولة الدائمة للنمل، وإنما ندت عنها نتيجة الاضطراب الذي أوقعه بمساكنها إقحام لاقط الصوت، وهي تشبه الصرير، كأنها – في تلاحقها ولهفتها – أجراس إنذار. وأعقب تلك الأصوات هجوم ضار على لاقط الصوت.
استهوى الأمر الباحث، فرتَّب لتجربة وضع فيها بعضاً من نمل النار في صندوق من البلاستيك مزوَّد بلواقط صوت في قاعه، وموصول بأجهزة قياس حساسة، مع تصوير سلوكيات النمل من أعلى الصندوق بكاميرا فيديو. وبقيت النملات تروح وتجيء في صمت تام، حتى ألقى إليها في محبسها دودة. فأخذت تحك ظهورها بحماسة شديدة، لتسجل الأجهزة موجات صوتية ذات تردد منخفض، شبيهة بتلك التي صاحبت الهجوم على لاقط الصوت، وانتهت بهجوم منظم على الدودة.
إذاً، كان ما سمعه سليمان أصواتاً حقيقية!
|