في رحلة عمل إلى العاصمة السودانية الخرطوم، كان مســار الطائرة متطابقاً مع وادي النيــل، تكاد لا تحيــد عنه طوال تحليقهـا في المجـال الجوي المصـري. وكان المشــهد في الأســـفل باهـراً، لي أنا على الأقـل، فقد كنت أراه من ذلك الارتفاع الشاهق للمرة الأولـــى. شريط رفيــع متعـرج من الميــاه والخضـــرة، يحيط به إلى الغرب بحر عـظيم من الرمـال المنبسطة، ومن الشرق مرتفعـات ضيقة تفصل بينه وبين البحر الأحمر. وفي مناطـق بعينهـا، كنت أشــعر بأن الالتــواءات التي تطــرأ على شـــريط الوادي كأنمــا هي محاولات للإفــلات من هذا الحصــار، لا تلبث أن تخيــب وتهمـد، ليعــود النيــل وأرضه الخضــراء إلى الاســتســـلام لقـدر ارتمائه بين أحضــان الصحــراء والمرتفعات في عــلاقة أزليــة.
وإنني لأتســـاءل: لمــاذا تحمل أحاديث وكتابات معظـم الجغرافيين والسياسيين والبيئيين والإعـلاميين، عن هذه العلاقة القدرية، شـــحنة تجهم واضــح تجــاه الصحــراء، انتصـــاراً للنيـــل وواديـه الأخضــر الضيّـق؟ لمــاذا لا نفكـر في أن هـذه العـلاقــة، بين الصحراء والوادي، لهـا وجههـا الطيــب، فلا ننســـى أن تلك الصحــارى المصــرية كانت منذ فجـر التاريخ درعــاً للوادي، منعتـه عن طمــع الطامعيـن وغـدر الغــزاة؟ ثم، دعونا نتأمّـل هـــذه الحـــال من الاســـتقرار الذي تتمتـع به الأنظمة البيئية في مصــر: البحران الأحمر والمتوســط، ووادي النيـل الخصــيب، والدلتــا، والبحيرات الشــمالية، بالإضـافــة إلى الصحــارى ذاتهـا. إنه اســـتقرار مـردود إلى حــد كبيـر للتكامـل بين هذه الأنظمـة البيئية مجتمعـة، وكـل منهـا يسـاهم بنصيـب فـي رســم الصــورة الإجماليـة للبيئـة الطبيعيـة فــي مصــر.
لا أستطيع أن أخفي حبي وحماستي للصحراء، التي بدأ تعرفي عليها خلال فترة تجنيدي في الجيش المصري من 1970 إلى 1974. ولي بعض الجهود المتواضعة، بينها كتاب مترجم عن الأنظمة البيئية المصرية، تســتهدف التعريـف بمواقع صحـراوية نكـاد لا نلتفــت إليهـا ولا يعرف الكثيرون عنهـا شـــيئاً، رغـم أنهـا مكـوّن رئيسي في جغرافية الوطن الطبيعية حيث تتميـز أنظـمة بيئيـة طبيعيـة تـرفــد التنـوع الأحيـائي وتغنيه.
لقد اعتـاد أطفالنـا، وهم يرســمون خريطـة مصـر، أن يســتخدموا القلم الأصــفر فـي تلويـن المناطـق الصـحــراوية، من دون تمييـز بين منطقـة وأخـرى. فهــي كلهــا عندهـم صحــراء، توصــف دائمـاً بالقاحلـة والنائية. والحقيقة هي أن الصحــراء المصـريــة ليســت متشـــابهة، بل إنها لشــديدة التبايـن. فصحــراء الشــمال الغربي تختلــف عن صحـراء الجنوب، والصحـراء غرب الوادي لهـا ملامحهــا الخاصــة التي لا تجـدهــا في الصحــراء الشــرقيـة، حتى صحــراء ســيناء يختلف شمالها عن جنوبها في التكوينات الجيولوجية والطوبوغرافية وطبيعة الحيــاة.
إن الثقافة التقليدية الصحراوية مغيبـة في أدبياتنا المكتوبة والمروية. وإننا، نحن سكان الوادي والدلتا، نكاد لا نلتفت إليهـا. فالصحراء في حكاياتنا جهمة موحشة، يأتي منها الشر والأشــرار، وسكانها في الأفلام ملثَّمـون غامضون. وتعترف الإدارات الحكومية بأن تلك الصحارى مواقع "غربـة"، وتغري موظفيهـا بحوافز مالية ليرضوا بالعمل فيهـا. إذاً ثمة تباعد وخصـام بين الوادي والصحراء، وقد آن الأوان لأن ينتهيـا.
|