تمتد خبرة البشر في السعي من أجل المعلومات بكل السبل، بما فيها السرقة والتجسس، إلى عصور قديمة، قبل أن تظهر الدولة بشكلها الحديث. وتتحدث التوراة عن اعتماد النبي موسى على الجواسيس ليجمعوا له المعلومات عن "أرض كنعان"، وقوله لهم: "اصعدوا من هنا إلى الجنوب، واصعدوا الجبل، وانظروا الأرض، ما هي، والشعب الساكن فيها، أقوي هو أم ضعيف، قليل أم كثير. وكيف هي الأرض، أجيدة أم رديئة. وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمخيمات أم حصون. وكيف هي الأرض، أسمينة أم هزيلة، أفيها شجر أم لا". كذلك، فإن قصة "شمشون ودليلة" ليست، في واقع الأمر، إلاَّ فصلاً من النشاط الاستخباراتي، فقد كانت "دليلة" أول أنثى في التاريخ المعروف تقوم بدور العميل السري، إذ نجح مالكو الأراضي في فلسطين قديماً في تجنيدها، لتصل بأي طريقة إلى معلومات تعينهم في القضاء على "شمشون"، عدوهم اللدود.
وشمل السعي من أجل المعلومات التجسس الصناعي، وسرقة أسرار العمليات التجارية. ويقدم لنا تاريخ "الشوكولاتة" نموذجاً لحالة سرقة من هذا النوع. لم تكن شجرة الشوكولاتة، أو شجرة الكاكاو، معروفة إلا في الأميركتين في عصور ما قبل كولومبوس. وكانت شعوب الأزتيك والمايا تستعمل حبوبها كعملة متداولة، وكانوا يخمّرونها ليصنعوا منها مشروبات ذات مذاق مـر. والغريب أن كولومبوس لم يلتفت إلى الكاكاو، ولم يهتم كثيراً بمشروباتها إلاَّ بعد رحلته الرابعة إلى العالم الجديد، حيث لاحظ أن الأزتيك في نيكاراغوا يقدسون تلك الشجرة، التي لم تثر فيه شهية المستعمر الناهب للثروات.
وقد حدث ذلك مع هيرناندو كورتيز، وهو مغامر إسباني آخر، مهد لثلاثمئة سنة من الهيمنة الإسبانية على المكسيك وأميركا الوسطى، وهو الذي انتبه للقيمة التجارية لبذور شجرة الكاكاو، فجلبها إلى إسبانيا. بل إنه بدأ في إنشاء مزارع الكاكاو في المكسيك عام 1550، وعمل على نشر حكايات حول الفوائد الطبية الاستثنائية لشراب الكاكاو أو الشوكولاتة، منها قوله لأحد رفاقه: "ما يعتريني من بهجة عند تناولي الشوكولاتة يجعلني قادراً على مواصلة الترحال طوال النهار، فهي تخلصني من الإجهاد، وتغنيني عن الأكل والشرب".
وقد احتكرت طبقة النبلاء الإسبانيين لنفسها شراب الكاكاو، وأحاطته بسرية شديدة لمدة ما يقرب من مئة سنة، قبل أن يعرفه العامة وينتقل إلى سائر أوروبا. وأصبح أكثر المشروبات تميزاً في العالم. وكان أحد الرحالة الإيطاليين، ويدعى أنطونيو كارليتي، هو السبب في كسر احتكار الإسبان للكاكاو، عندما اكتشف أشجارها في إحدى رحلاته إلى جزر الهند الغربية عام 1606، فأسرع ينشر بين الإيطاليين وصفته عن "الشوكولاتة الحلوة"، فشاعت في إيطاليا.
ألا يحق لشعوب "العالم الجديد"، في أميركا الجنوبية والوسطى، أحفاد المايا والأزتيك، أن يطالبوا "العالم القديم" بحق الانتفاع بالكاكاو، شجرتهم المقدسة، وحبوبها التي استمتعوا بمنتجاتها على مدى قرون من الزمن؟
|