المصادفة وحدها جعلتني أهتم بقراءة إعلان نشرته إحدى كبريات صحفنا العربية، بعد ظهر يوم حضرت في صباحه مناقشة لرسالة علمية.
أما الإعلان، فهو عن مبيد تنتجه واحدة من الشركات العالمية المتخصصة في إنتاج الأدوية والمستحضرات الكيميائية. وهو يقاوم نوعين من القواقع يعيشان في الأنهار والبحيرات والقنوات والترع والمصارف، ويستضيفان الطفيل المسبب لمرض البلهارسيا، قبل أن ينتقل إلى الإنسان، أي أنهما يلعبان دور العائل الوسيط، بين دودة البلهارسيا والإنسان. فإذا قضينا على هذين القوقعين، لن تكتمل دورة حياة الطفيل، فيهلك. وقد جاء في الإعلان ما نصّه:
"ومن مميزات هذا المبيد أنه ليست له آثار ضارة على من يستعملونه، ولا على النباتات".
وهذه مغالطة نترك مهمة الرد عليها لرسالة الدكتوراه، التي نوقشت - لسوء طالع المبيد ومنتجيه والإعلان وناشريه – في يوم ظهور الإعلان، في قسم علم النبات بكلية العلوم في جامعة الاسكندرية. ويمكنك أن تدرك افتراء الإعلان من مجرد مطالعة عنوان الرسالة، وهو: "التأثيرات السيتووراثية (الخليوية الوراثية) والتغيرات السميّة الجينية للمبيد (عينه) في نباتي الفول والذرة".
وقد اختار الباحث هذين النباتين لأهميتهما الاقتصادية والغذائية. ولن نشغل القارئ بتفاصيل البحث، فنصل إلى بعض نتائجه مباشرة، ومنها أن تعريض بادرات النباتين لتركيزات ضئيلة من المبيد أدى إلى تثبيط عملية تخليق الحمض النووي DNA وتشويه كروموزومات الخلايا، لأن المبيد يتفاعل مع الحمض النووي. ويعرف المهتمون بعلوم الحياة أن حبوب اللقاح هي الناتج النهائي للانقسام الخليوي الميوزي، وأنها تحتوي على عدد أحادي من الكروموزومات. لذلك، فإن أي طفرة جينية تطرأ على النبات تظهر في هذه الحبوب بوضوح. وقد أثبتت الدراسة تشوه مظهر حبوب اللقاح في النباتين، وازدياد نسبة العقم فيها، ولا تفسير لذلك إلا أن طفرة حدثت نتيجة تعرض النباتين للمبيد. وبالإضافة إلى ذلك، أثبتت الدراسة أن للمبيد تأثيرات على لون ونوعية الطبقات المختلفة لحبوب الفول والذرة، وعلى شكلها الخارجي الذي تغير من المليء إلى المجعّد والمنقّر. وهذا يؤكد مرة أخرى حدوث طفرات جينية.
وهكذا، نرى أن المبيد غير آمن بالنسبة الى النباتات، وأن الإعلان لم يكن يقول الحقيقة، من أجل الترويج لمادة كيميائية تشارك في علاج مشكلة صحية على حساب الاعتبارات البيئية. فهل كانت الشركة المنتجة لهذا المبيد والمعلنة عنه لا تعرف الحقيقة؟ إن كانت جاهلة فتلك مصيبة، ولكن يصعب تصديق ذلك، فنحن أمام شركة عملاقة تنفق البلايين على مختبرات الأبحاث.
الأقرب للتصديق إذاً أن الشركة تعرف كل شيء عن منتجاتها، وأنها اختارت إخفاء الحقيقة، وهي متأكدة من أنها لن تجد أحداً يحاسبها. ثم ان سـطوة إمبراطورية الإعـــلان أغمضــت العيون وسدت الآذان وغيبت العقول.
|