أعملُ في حقـل البيئـة البحـريـة منـذ ما يزيد عن ثـلاثيـن سـنة. وبمرور الوقت، يتنامى لـديَّ إحسـاسٌ بأن أحوال البيئة في كوكبنـا لا تتقدم على النحـو المأمـول. ولا أقول تتدهـور باطـراد، حتـى أنني أعطيـتُ أحدثَ كتبـي عنواناً، هـو: "ربيـعٌ صـامــتٌ آخـر"، وفيه تضمينٌ وإشـارةٌ إلى كتـاب راكيـل كارسـون "الربيـع الصامــت"، الذي كان أول صيحة تحذير من تدهور أحوال البيئة في الستينات من القرن الماضي. وهو أضاء الكثير من الحقائق المخفية، وغيَّــر بعض المفاهيم والأفكار السائدة، وامتد تأثيرُه إلى العالم كله، وكان شهادة صارخة، انتهت بإدانة المبيدات ووضع ضوابط صارمة على إنتاجها وتجارتها واستهلاكها.
وقد جاءت الرؤية المتشـائمة في كتابي اســتجابةً للشـكوك التي انتابتني في مدى جدية وجدوى الجهود الضخمة التي بذلتها وتبذلها حكومات الدول ومنظمات عالمية لإدارة شـؤون البيئة. وهي جهودٌ لم تكن متوفـرة في زمن ظهور "الربيع الصامت"، ولكن بالرغم منها نوشـك أن ندخـل في "ربيع صامت آخـر"، بل لعلنـا دخلنـاه فعـلاً. وهـو هذه المرة ليس صامتاً وحسـب، بل قد يكون أيضاً أصـمّ أبكـم، وقد يكون أعمــى!
إن كنتَ متفائـلاً، وتراني أغالي في تشـاؤمي، تعـال فـكِّــر معـي بصـوتٍ عـالٍ، بحثـاً عن إجاباتٍ محددة لبعض التسـاؤلات التي قد تبدو بسيطة، غير أنهـا محيِّرة.
دعنـا نتسـاءل بدايةً: هـل تهمنا الطبيعة؟ والإجابة بالطبع نعـم. ولكن إلى أي حـدٍّ تهمنـا؟ وهـل يقـلّ اهتمامنـا بهـا مع تزايد اهتمامنـا بالتكنولوجيات الحديثة واعتمادنا عليهـا، مثـل تكنولوجيا التعديل الوراثي لبعض المحاصيل الزراعية الغذائية، ومثل تطبيقات العـلاج الجينـي، وغيرها من تدخلات متعددة للعلم والتكنولوجيا في مجمل أوجه حياتنا المعاصرة؟
لم ينته هذا السؤال الطويل، وتقول بقيته: ألا يأخذنا ذلك كله، طائعين أو مجبريـن، ويبعد بنـا عن "أمنا الطبيعة"؟ فإذا كنـا لم نعـد نحتـاج إلى الطبيعـة، وقد قل اهتمامنا بها، فهـل يمكن للعلوم والتكنولوجيا أن يخدمانا، كبديل عن الطبيعة، وإلى أي مـدى؟
إن واضعي خطط وبرامج التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية يشـتركون جميعاً في الشـكوى من صعوبة اتخـاذ القرار عند المفاضلة بين الخيـارات المطروحة أمامهم. وهم يترددون أمام أسـئلة من صنـف: هـل نتدخـل لنمنع التلوث، أم ننفق الأرصدة في اتجاه آخر هو تحسين أحوال البيئة؟ وتتفرع من هذا السؤال سلسلة تسـاؤلات لا تزال تبحث عن إجابات شافية: هـل نســمح بمحاولات أكثر ليسـيطر الإنسـان على الطبيعة، فيتحكم في المطر ويعـدِّل الصفـات الوراثية وغير ذلك؟ أم نضـع حـدوداً لهـذا التدخل؟ ومن يفعل الصواب: هـؤلاء الذين يقدمون التنمية البشـرية في صدر قائمة أولوياتهم ويعطونها كل الاعتبارات، أم أولئك الذين تأتي حماية الطبيعة عندهم قبل أي اعتبار؟
|