أثناء ترتيب مجلاتي وأوراقي القديمة، وجدت تلك النسخة الذهبية من العدد الأول من مجلة "البيئة والتنمية" الصادر في العام 1996. فكرت ملياً وبشعور يعجز عن التصديق في أنه قد مرت 18 سنة على تلك اللحظة. لا أذكر بالتفصيل من أين حصلت على ذلك العدد، ولكني أعرف تماماً أن "البيئة والتنمية" كانت ثاني عنصر ساهم في تحديد مسار حياتي المهنية بعد مؤتمر قمة الأرض في العام 1992، وربما تكون ساهمت بالمثل في التأثير بالكثير من النشطاء البيئيين حالياً.
لا أدعي أنني كنت مدركاً لمستقبلي المهني عندما أنهيت مرحلة الثانوية العامة في العام 1987. حلمي الأساسي كان الصحافة، التي كانت تمثل الرغبة الطويلة الأمد لدي. ولكن والدي رحمه الله أشار لي بطريقة حكيمة بأن الصحافة هي موهبة يمكن استثمارها في أي وقت ومكان، ولكن الشهادة العلمية هي الأساس في الحصول على مسار مهني متطور. في ذلك الوقت كان معدلي يسمح لي بدراسة الهندسة والعلوم. وعلى رغم جاذبية الهندسة اجتماعياً ومهنياً، فإن كرهي الشديد لمادتي الرياضيات والفيزياء جعلني أختار تخصص علوم الحياة والمختبرات الطبية من دون تخطيط ولكن بأمل أن يوصلني هذا المسار إلى أمر ما في النهاية.
استمتعت بالدراسة، لكن الصحافة بقيت الطموح الأساسي الذي عملت به في صحف ومجلات أسبوعية. وفي نهاية البكالوريوس تخرجت بتقدير جيد جداً، وعملت مساعداً للبحث والتدريس في الجامعة الأردنية أثناء دراستي للماجستير حيث كنت أخطط للتخصص في علم الجراثيم (المايكروبيولوجيا). وعلى رغم حصولي على علامات جيدة، كنت أشعر بأن العالم كان صغيراً جداً بالنسبة إلي. وصادف أن قمت مع زملاء لي بإعداد معرض علمي في صيف 1992، ولأجل تحضير المواد والمعروضات اتجهت إلى مقر "الإسكوا" الذي كان في عمان في ذلك الوقت، وحصلنا على منشورات كثيرة حول البيئة وقمة الأرض التي كانت قد عقدت تلك السنة.
عندما قرأت تلك المنشورات، وخاصة التي أصدرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، وصلت إلى حالة النيرفانا، أو اليوريكا، وتأكدت بأن هذا هو المجال الذي أريد التخصص به. كانت البيئة هي السحر الذي يجمع العلوم والسياسة والاقتصاد والتنمية وحقوق الإنسان معاً في منظومة واحدة. تركت العمل على رسالة الماجستير في العلوم المجهرية، وانتقلت فوراً إلى علم البيئة في الكلية نفسها. وأصبحت الأستاذة المشرفة على رسالتي هي الدكتورة علياء بوران سفيرة الأردن في الولايات المتحدة حالياً. لمدة ثلاث سنوات عملت في الميدان باحثاً في رسالتي، وقرأت كل ما يمكن أن أصل إليه من معلومات حول البيئة، إلى أن تخرجت من الجامعة. بعد ذلك عملت في الجمعية الملكية لحماية الطبيعة في الفترة التي بدأ فيها البحث الميداني الشامل للمحميات الطبيعية الجديدة، وكان ذلك أمراً ممتعاً، ولكن رغبتي الرئيسية في الصحافة بقيت موجودة، وكنت أكتب المقالات السياسية والاقتصادية بشكل منتظم.
صدور مجلة "البيئة والتنمية" كان لحظة النيرفانا الثانية في حياتي المهنية، حيث اكتشفت كيف يمكن للجمع بين علم البيئة المثير ومهارات الصحافة أن ينتج تحفة علمية وإعلامية كهذه. راسلت المجلة مهنئاً بالصدور، وكتبت مقالة صغيرة فوجئت بنشرها في عدد لاحق. وهكذا بدأت علاقة مهنية لمدة 18 عاماً أفخر بكل لحظة منها مع المجلة، وخاصة الناشر ورئيس التحرير نجيب صعب ورئيسة التحرير التنفيذية راغدة حداد. تعلمت الكثير جداً من "البيئة والتنمية"، وخاصة احترافية العمل الإعلامي الملتزم بدقة المعلومة. منذ ذلك الوقت حددت مساري في الإعلام البيئي، وتمكنت فيه من إيجاد التوازن المطلوب بين المؤهل العلمي والمهارات الإعلامية. وفي كل المواقع التي شغلتها في المؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية وغيرها، بقي الشغف الرئيسي الذي يجعلني أشعر بأنني حققت أمراً أفخر به هو مساهماتي في الإعلام البيئي، التي كانت بشكل أساسي بفضل مجلة واعدة أحدثت تغييراً كبيراً في حياتي منذ 18 سنة.
الشغف لا يزال قائماً، وهو المحرك اليومي الذي يقدم الجديد. أرجو أن يكون كل شخص يقرأ هذا المقال واعياً لماهية الشغف الذي يدفعه نحو العمل والتغيير الايجابي.
|