حـدد لنــا الفلكيــون مواعيد انقلابات الفصول، لكننا نسيناها، فلم نعد نشعر بالصيف إلا حين نحتاج إلى تخفيف ملابسنا، ولا بحلول الشتاء إلا حين نجد صعوبة في تحمل برودة الجو من دون ملابس ثقيلة. لقــد أكَّــد لــي صـــديق أنه يكاد لا يتذكَّــر مقدم الربيع إلاَّ عندما يسمع مصادفة أغنية فريد الأطرش "أول همسة". أما الخريف، فمقدمته تذوب في الصيف، وتتداخل نهايته مع طلائع الشتاء، فلا نشعر بمجيئه أو بانتهائه. ولم يعد سقوط أوراق الأشجار يعني لنا شيئاً، إن كنَّـــا لا نـزال نحتــفظ بأشـــجار!
كـــان أجــــداد البشر الأقدمون، في كل الحضارات، يحتفون بمقدم الفصول والمواسم، ويدركون العلاقة بين دورات الزمن والعالم الفيزيقي المحيط بهم. وكان سكان مناطق في نصف الكرة الشمالي، مثلاً، يحتفلون بالأول من شهر آب (أغسطس)، ويتخذونه عيداً للحصـــاد، ويجدون فيه مناسبةً لتقديم الشكر والعرفان للأرض على كريم سخائها، فقد أعطتهم من حصــادها قوتاً لشــتاء طويل قادم.
إن دورات الفصول فرصة للتزود برؤى صافية لما يجري حولنا، يجب أن نغتنمها، للتدبُّــر في التحديات التي تواجهنــا كبشــر نعيــش في كوكــب مرهــق بالأثقال يلهث من أجل الوفاء باحتياجات سكانه. غير أننا ابتعدنا، قليلاً أو كثيراً، عن الإحساس بدورات الحياة وإيقاعات الطبيعة والحقيقة بداخلنا. ويجب أن نعترف بأن لتقاعسنا، وقعــودنا عن تنشيط العلاقة التفاعلية الحقة مع الطبيعة، أبعـــاداً أخـــرى. ففــي ظل ثقافة "استهلك مهما كان الثمن"، ينتظر قادة المجتمعات الاستهلاكية الكبرى حتى تقع الكارثة البيئية، فيتحركوا. وهم، إن تحركوا، ففي الاتجــاه الذي يجعـل التجارة تظل تتدفق. انظر إلى ما فعلته الإدارة الزراعية في ولاية واشنطن الأميركية، لقد اعتبرت الانتشـــار الواسع والمفاجئ لخنفســــاء الليمون الطويلة القرن حالة وبائية فاتخذت إجراءات الطوارئ، وأمرت بقطع أكثر من ألف شجرة سكنتها جيوش تلك الخنفساء، بدلاً من أن تتروَّى وتدرس هذه الحالة الطارئة. وحقيقة الأمر أن تلك الإدارة كانت واقعة تحت ضغط رجال صناعة الأخشاب في الولاية، الذين دفعتهم مخاوفهم من فقدان مزيد من الأشجار، بسبب الخنفساء، إلى التأثير على المسؤولين في الإدارة ليتخذوا ذلك القرار!
قرار آخر اتخذته شركة دواء أميركية كبيرة بأن حددت سعراً لعقار ابتكرته، مضـــاد للإيــدز، يصل إلى 15 ألف دولار على مدى عام واحد من المعالجة، مما يجعله بعيداً عن متناول 36 مليون مريض فقير حول العالم. وقد رفضت الشركة تخفيض السعر، وقال متحدث باسمها : "إننا لا نقبل سرقة حق ملكيتنـــا الفكــريـــة".
هل نعدُّ ذلك طمـــعاً فــــردياً؟
ما أكثر الأفراد في هذا العالم المصابين بهذا المرض، الطمع، الأخطر برأينا من الإيدز. إنه مرض يعمي عن حقائق دوران الأيام والحيـــاة، فيجعل الطامعين لا يعرفون معنى الشكر وفضيلة العـرفـــان.
|