شهد المجتمع الأميركي بعد الحرب العظمى الثانية عهداً من الرخاء والوفرة، تحول فيه "الاستهلاك" إلى فلسفة وأسلوب حياة سائد. بل إن أحد مفكري ذلك الوقت، ويدعى فيكتور ليبو، دعا الأميركيين إلى أن يتخذوا من الاستهلاك وسيلة لخلاص الروح وتحقيق الذات.
وجدت تلك الدعوة استجابة واسعة، بل تعدت حدود الولايات المتحدة إلى عدد من مجتمعات الدول الصناعية، فأصبح الاستهلاك صبغة للحياة فيها. وقد جاءت الاستجابة من الأغنياء عموماً. وهكذا، صار يعيش في هذا العالم بليون إنسان في رغد ورفاهية، وبليون آخر عند حد العوز. وكانت لهذه الموجة الضارية من السلوك الاستهلاكي تبعاتها على البيئة، إذ جارت على الموارد الطبيعية من غابات وتربة وماء وهواء، وأساءت إلى المناخ العام للأرض.
نحن لا ندعو إلى نقيض مجتمع الوفرة والاستهلاك المتزايد، فليس في الفقر والركود حل لمشاكل البيئة والموارد الطبيعية المنهكة. ولكن علينا أن نحدد لأنفسنا ما يكفينا من احتياجات تستطيع الموارد الطبيعية أن تفي بها، من دون أن نسيء إليها ونجور على مخزونها. قد يكون ذلك صعباً، ولكن من الضروري أن يتوقف البشر ليسألوا أنفسهم كم يكفيهم ليشبعوا. فقد يساعد ذلك على توضيح حقيقة هامة، وهي أنه إذا لم تتغير معاييرنا الاستهلاكية ونرى أن "الأكثر" ليس دائماً هو "الأفضل"، فلا جدوى من الإجراءات التي يجري تنفيذها لتدارك تدهور الموارد.
وقد وصلت عدوى الاستهلاك إلى بعض المجتمعات الفقيرة. ففي الهند، على سبيل المثال، ظهرت طبقة متوسطة جديدة يزيد تعدادها على مئة مليون فرد، ساعدتها ظروف السوق الحرة وأنظمة البيع بالتقسيط، فانطلقت قوتها الشرائية تخطف كل شيء، من السيارة إلى الوجبات المجلدة. وتحول الإنسان الهندي، ذو الميل التقليدي للمحافظة والبساطة في معيشته، إلى إنسان محموم بالشراء والاستهلاك.
وإذا افترضنا أن تعداد المستهلكين المسرفين بليون واحد من سكان العالم، فإن ذلك يمثل عبئاً شديداً على الأرض. فبين هؤلاء البليون المسرفين يوجد أغنى خُمْـسِ تعداد البشر، ويسيطر هذا الخُمس الأغنى على 99 في المئة من الرؤوس النووية الحربية!
ويرتبط السلوك الاستهلاكي في بعض مجتمعات الوفرة بما يمكن أن يسمى "الإهدار" (throwaway)، حيث أصبحت عمليات التعبئة والتغليف صناعة ضخمة، كما تزايد الاعتماد على السلع التي تستخدم لمرة واحدة ثم تهدر أو تهمل. وتبلغ كلفة التعبئة والتغليف في الولايات المتحدة 225 دولاراً للفرد الواحد في السنة.
فما الذي يدفع الكثرة إلى الاستهلاك بشراهة؟ هل لأن البشر بطبعهم لا يقنعون بما لديهم، كما أكد أرسطو بقوله: "إن جشع الإنسان لا يرتوي"؟
لقد تضاءلت قيمة الفضائل التقليدية، مثل الاستقامة والنزاهة والشرف والإتقان، وتراجعت كمعيار للمكانة الاجتماعية، ليحل محلها جميعاً مؤشر واحد يحترمه الجميع هو: المال! وهو لا يحقق "الإشباع" بارتفاع الرصيد فقط، بل أصبح الهدف تجاوز ما لدى الآخرين.
|