لو جمعنا نسخاً مطبوعة من جميع الدراسات التي أجريت على مشروع قناة البحرين (الأحمر-الميت) منذ 20 سنة تقريباً سيتم تعبئة غرفة كاملة بمساحة لا تقل عن 3 أمتار عرضاً و3 أمتار ارتفاعاً. هذا المشروع الذي أثار العديد من المناقشات والأسئلة وعلامات الاستفهام ونظريات المؤامرة والخيال العلمي مات قبل أيام من دون أن يساهم في إحياء البحر الميت كما كان متوقعاً.
في لحظة نادرة من الصفاء الذهني والمنطق من قبل الحكومات العربية، وجد وزير المياه الأردني حازم الناصر أنه لم يعد بالإمكان المضي قدماً في هذا المشروع بعد ظهور النتائج النهائية لدراسات تقييم الأثر البيئي والجدوى الاقتصادية التي أجراها البنك الدولي ونشرها على موقعه الإلكتروني مؤخراً. الحكومة الأردنية قررت التخلي عن حلم المشروع الضخم والتوجه نحو منظومة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتلبية الاحتياجات المائية في رابع أفقر دولة في العالم بكميات المياه المتاحة، إضافة إلى الهدف البيئي في استعادة منسوب البحر الميت المتراجع منذ عقود طويلة.
مشروع قناة البحرين كان دائماً إشكالياً. منذ أن فكرت به الأردن في سياق "شهر العسل" الذي ظهر في مفاوضات السلام منذ العام 1992 حظي بالعديد من الانتقادات السياسية والفنية. مجموعات مقاومة التطبيع في الأردن اعتبرته مشروعاً "صهيونياً" ومن أفكار مؤسس الدولة العبرية هرتزل -علماً بأن ذلك المشروع كان بين البحر المتوسط والميت- كما انتقدت جمعيات البيئة المشروع باعتباره سيؤثر على بيئة البحر الميت سلبياً بدلاً من انقاذها. تعرض المشروع لعدة انتقادات أقليمية مبنية على سوء الفهم وخاصة من مصر والتي ذكر فيها بعض "الخبراء" أن المشروع سوف ينافس قناة السويس لخدمة إسرائيل، علماً بأنه ليس أكثر من قنوات وأنابيب تحت الأرض لنقل المياه.
علمياً كان الجميع في انتظار نتائج دراسة البنك الدولي التي استغرقت وقتاً طويلاً وكلفت أموالاً طائلة استفاد منها المستشارون الذين تم التعاقد معهم. النتائج التي أعلنت في شهر آذار (مارس) الماضي أشارت إلى أن "المشروع قابل للتنفيذ" ولكن بين الأسطر، واعتماداً على مستوى الذكاء والتفكير المنطقي، كانت النتائج تشير إلى عدم إمكانية تنفيذ المشروع لأنه لن يخدم أهدافه الرئيسية.
الهدف المعلن الأول من المشروع كان إعادة منسوب البحر الميت إلى سابق عهده الطبيعي عن طريق ضخ كميات من المياه المالحة الناتجة عن محطات التحلية التي سوف يقوم المشروع بإنشائها لتحلية مياه البحر الأحمر. أشارت الدراسات إلى أن البحر الميت يحتاج إلى ما معدله 700 مليون متر مكعب سنوياً من المياه المالحة ليستعيد منسوبه خلال عقدين قادمين. ولكن المشكلة أن طرح أكثر من 350 مليون متر مكعب من المياه سنوياً كان سيتسبب بظهور طبقة من الجبس نتيجة تفاعل الكالسيوم من البحر الميت مع السلفات من البحر الأحمر. بناء على ذلك فإن الهدف الرئيسي لن يتحقق في حال تم الالتزام بالحد الآمن من ضخ المياه المالحة للبحر الميت. المشكلة الثانية كانت التمويل الذي يصل إلى 10 بلايين دولار ومن الصعب الحصول عليه في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية، وأخيراً فإن المشروع يحتاج إلى 800 ميغاواط من الطاقة لا توجد مصادر لها حالياً وربما ليس في المستقبل.
يحلم المهندسون دائماً بمشاريع عملاقة لحل الأزمات التنموية، ولا شك أن طموح المهندسين في ربط البحر الأحمر مع الميت كان نابعاً أيضاً من شعور بالتميز الذاتي حاول تجاوز الحدود والحقائق الطبيعية والبيئية والاقتصادية التي تمنع مثل هذا التفكير. مشكلتنا في العالم العربي أن المهندسين دائماً يفكرون بما هو كبير، بينما لا يتم إفساح المجال للعلماء الطبيعيين والمختصين في الاقتصاد والتنمية المحلية ليفكروا في الحلول الصغيرة الأكثر واقعية واستدامة.
لفظ مشروع قناة البحرين أنفاسه وهو لا يزال على الورق، وهذا أفضل بكثير من أن يصل صناع القرار إلى الحقيقة أثناء التنفيذ، ونتمنى أن تصل حكوماتنا العربية إلى لحظات صفاء ذهني مماثلة في فترات مبكرة لوأد مشاريع حالمة غير واقعية قبل أن تنفق المزيد من الأموال عليها.
|