هنيئاً لك إذا كنت تقرأ هذا المقال. ليست التهنئة بالطبع بسبب نوعية المقال، ولكن لأنك الآن موجود في موقع "البيئة والتنمية" الذي يشكل أنجح مشروع لنشر المعلومات البيئية المجانية والمتاحة للجميع في العالم العربي. أنت الآن تسبح في كنز من المعرفة البيئية أصبح متاحاً بفعل تصميم وإرادة وشغف القائمين على هذا الموقع وإيمانهم بضرورة نشر المعلومات للجميع. هذا الوضع هو الاستثنائي في العالم العربي، حيث "القاعدة" هي أن كل قاعدة بيانات إما أن تكون فاشلة وفارغة وإما أن تكون مغلقة لا يمكن الدخول إليها إلا بدفع المال أو عبر تقديم خدمات من تحت الطاولة.
منذ بدأت العمل في مجال البيئة، شاركت في عشرات الأنشطة وورش العمل والتقارير والتوصيات والسياسات والاستراتيجيات التي تطالب بإنشاء "قاعدة بيانات بيئية". شاهدت خلال هذه الأعوام أكثر من 10 قواعد بيانات لا يوجد منها واحد فقط يعمل حالياً أو متاح لجميع المستخدمين. آخر قاعدة بيانات تابعت إنشائها كلفت 125 ألف دولار من أموال المنح الدولية لشراء السيرفر والأجهزة وخدمات التدريب والدراسات، لكنها الآن خاوية على عروشها لأن أحداً لم يتحمل مسؤولية تغذية الأجهزة بالبيانات. ربما يحتاج الأمر إلى مشروع من دولة مانحة أخرى لتشغيل قاعدة البيانات وتغذيتها طوال فترة المشروع، وبعد ذاك توقفها من جديد بسبب توقف التمويل.
صحيح أن المعرفة رأسمال، ولكن ليس إلى الدرجة المحبطة التي نراها في العالم العربي. في المؤسسات والجامعات العالمية، أصبحت المواقع الإلكترونية منابر وقواعد بيانات هائلة سهلة التصفح ويمكن لأي كان الوصول إليها. برامج الاتاحة المفتوحة (Open Access) جعلت ملايين الوثائق والدراسات والأوراق العلمية والبيانات موجودة لخدمة كل الباحثين والمهتمين. الاقتصاد العالمي أصبح معتمداً على المعرفة، التي بدورها باتت حقاً مشروعاً من حقوق الشعوب وليست منحة من مالكي المعلومات لمستخدميها.
في دولنا، يتم إنشاء قواعد البيانات داخل الوزارات والمؤسسات العامة والجامعات، ولكنها تخدم فقط عدداً محدداً من الناس. يمكن أن تجد في وزارة واحدة خمس قواعد بيانات في خمس مديريات لا يستطيع موظف في أي منها الدخول إلى قاعدة بيانات المديرية الثانية، ناهيك عن طلبة الجامعات والباحثين الذين يطلب منهم دفع مبالغ باهظة لا يملكون شيئاً منها. يمكن أن يدخل إلى هذه القواعد فقط المستشارون الأجانب المحظوظون الذين يعملون مع مؤسسات مانحة ويقومون بتجهيز "مقترح مشروع" للتمويل الدولي، حيث يتم تقديم جميع أشكال الرعاية والعناية والدلال لهم. وبعد الانتهاء من تحضير مقترح المشروع يمكن للمستشار الأجنبي أن يتاجر بهذه البيانات لسنوات طويلة!
حتى بين المؤسسات الحكومية نفسها يجب الدفع. المعلومات الإحصائية والمعلومات الخاصة بالأرصاد الجوية ومصادر التلوث ونوعية عناصر البيئة تعتبر أرقاماً ضمن الأمن القومي، ولا يمكن لوزارة أو مؤسسة عامة أن تحصل عليها إلا بعد سلسلة من الخطابات الرسمية والمفاوضات ودفع الأموال، خاصة إذا كانت من جهات مانحة.
كلما كنت مسيطراً على المزيد من البيانات، كنت صاحب قيمة ومكانة إدارية في المؤسسة التي تعمل فيها، ونجاحك يرتبط مباشرة بمنع غيرك من الحصول على البيانات. في حالات معينة كان "المسيطر" على البيانات يجبر مؤسسات دولية ووزارات أخرى على اختياره "خبيراً" ضمن بعض فرق العمل، فقط من أجل منح البيانات للباحثين الآخرين من دون أن يبذل أدنى جهد في إعداد التقرير المطلوب.
هنالك عنصران أساسيان يجب أن يتضمنهما كل مشروع لقاعدة بيانات أو نشر للمعلومات البيئية، هما الإتاحة والاستدامة، ومن دونهما تولد هذه المشاريع ميتة ولا يستفيد منها سوى باعة أجهزة الكومبيوتر ومصممي مواقع الإنترنت وقواعد البيانات والخبراء الذين يقومون بالدراسات، ولا يستفيد الرأي العام ولا الباحثون.
|