أعجبتني فكرة هذا الكتاب الجديد الذي يعرض لنا كيف كنا نرى العالم من خلال خرائط صنعها جغرافيون بمجرد التخمين. فحتى وقت متقدم من القرن التاسع عشر كانت مناطق شاسعة في أفريقيا وأوستراليا مجهولة، وكان الجغرافيون يستعينون في غالب الأحوال بالخبرات المتناقلة والمنطق لترسيم ملامحها الجغرافية، فينتهي ذلك إلى الخطأ في الجانب الأعظم من أعمالهم.
لقد اختار المؤلف البريطاني إدوارد بروك-هيتشينغ لكتابه، الذي يصدر في أول تشرين الثاني (نوفمبر)، عنوان "أطلس الأوهام" (The Phantom Atlas) أي أطلس الخرائط الوهمية. ويجمع فيه حصيلة غنية من هذه الخرائط المجافية للحقيقة، والتي يتباين مدى تضليلها بين أخطاء عفوية غير مقصودة وأخرى خرافية صريحة الكذب. فتجد مثلاً خريطة لجزيرة جاوه الكبرى، وهي أكبر الجزر الإندونيسية الآن، وكان يُظنُّ أنها قارة قائمة بذاتها، وأول من اكتشفها وسجلها في يوميات رحلاته ماركو بولو. وتصور الخريطة سكان جاوه يمتطون الخيل ويقطفون ثمار جوز الهند، بينما تنتشر في مياه البحر كائنات خيالية.
ويقوم الكتاب على جهود أدمغة كانت تتملك أصحابها رغبة صادقة في رسم صورة العالم معتمدين على ما كان متوفراً لديهم من معلومات محدودة. فكانوا مضطرين لأن يعتمدوا أيضاً على الأقاويل والشائعات والاستنتاجات الأقرب إلى الرجم بالغيب والأكاذيب. وتحكي مقدمة الكتاب عن جزيرة محددة الموقع في خليج المكسيك، تتناقلها خرائط المنطقة عن خريطة قديمة رُسِمت في وقت مبكر من القرن السادس عشر، ولم يتحقق وجودها الصحيح إلا في العام 2009.
والبوصلة أداة أساسية للجغرافيين، وقد استوقفهم قديماً كونها تشير إلى الشمال، وأن ذلك راجع إلى ما نعرفه الآن بالمجال المغنطيسي الأرضي. وعندما أراد أولئك الجغرافيون "المجتهدون" أن يرسموا خريطة للقطب الشمالي، هداهم تفكيرُهم إلى وجود مغنطيس هائل هناك يجذب إبرة البوصلة لتشير إليه، فرسموا الخريطة وفي وسطها "جبل المغنطيس". وتُنسبُ هذه الخريطة، التي يعود تاريخُها إلى العام 1606، إلى رساميم للخرائط، أحدُهما فلمنكي هو جيرارداس ميركاتور، صاحب فكرة المساقط المعيارية التي لا تزال تظهر في خرائطنا المعاصرة. ويعترف ميركاتور بأنه استمد تصوره لخريطة القطب الشمالي بجبلها المغنطيسي العجيب من كتاب قديم عن الحظ والسحر عنوانه Inventio Fortunata وُضِع في القرن الرابع عشر، ويردُ فيه تصوير للقطب الشمالي كجزيرة مغنطيسية محاطة بدوامة عملاقة، وتتناثر حولها أربع قارات. ويبدو أن هذا التصور ظل قائماً لعدد من القرون.
وكان رسام خرائط ألماني يُدعى سيباستيان مونستار هو من رسم أول خريطة مطبوعة للأميركتين عام 1554. فعلى أي أساس خمَّن الرجل شكلهما؟ كان مأخوذاً بادعاء مستكشف إيطالي هو جيوفاني دا فيرازانو أنه تمكن عام 1524 من أن يرى ساحل المحيط الهادئ من موقع على ساحل المحيط الأطلسي! فكان أن رسم الرجل قارتين يفصل بينهما اختناق يتسق مع ما ادعاه فيرازانو.
وممن سقطوا في بحر التوهمات أيضاً رسام الخرائط الهولندي يوهان فينيبون، فرسم في خريطة لأميركا وضعها عام 1650 ما يعرف الآن بولاية كاليفورنيا على هيئة جزيرة، بينما هي شبه جزيرة مستطيلة. والعجيب أن الخرائط السابقة لخريطته تغافلت عن كون كاليفورنيا شبه جزيرة، فجعلتها منطقة ساحلية كاملة الاتصال بالأرض الأميركية، لكن فينيبون كان ضحية كتابات أسباني هو أنطونيو ديلا أسّنسيون، وصف فيها كاليفورنيا بالجزيرة، فظلت جزيرة حتى عام 1747 حين أصدر الملك الأسباني فرديناند السادس إعلاناً رسمياً ينفي عنها صفة الجزيرة.
|